Thursday, May 02, 2013

أنا أسف يا هند



أطرق باب الفصل ..أدفع الباب في لهفة , تهدأ جلبة التلاميذ بالتدريج حينما يلمحونني أدلف إلى الفصل , يعم الصمت ويقف الجميع في ترقب ,أبحث عن وجوه التلاميذ عن وجه مألوف .

في "الفسحة " كانت هند تأتي لي في غرفة المدرسين تجلس بجواري , تقاسمني شطائرها وتريني أخر رسم رسمته في كراستها .. تراقب رد فعلي ... إذا ابتسمت , ابتَسمّت , وإذا لم  أبتسم تضم حاجبيها وتتظاهر بالغضب
نتقاسم الحكايات , تخبرني عن كائناتها الأسطورية ودميتها وابن الجيران الذي يضايقها دوماً ويهشم ألعابها
لم أرى ملاكاً يوماً .. لأحدد كيف يبدو , لا أستطيع أن أقول أن هند تشبه الملائكة , ولكن لها عينان توحيان أنها جاءت من السماء تواً , أنف دقيق وغمازتان تظهران حينما توشك الضحكة على البزوغ , لتظهر أسنانها المُنمنمة , تشاكسها خصلات شعرها التي تسقط بين الحين والآخر فترفعها بعيداً عن جبهتها الصغيرة ...

عندي لكِ هدية "  لمعت عيناها ,و التقطتها سريعاً ورفعت حاجبيها وقالت "دي أنا!" , الفرحة في عينيّ هند لها لمعة مختلفة , لها شكل خاص يختلف عن كل أنواع الفرحة , يومها وبعفويتها المعتادة ,طبعت قبلة على خدي وقالت " لو علمتني إزاي أرسم كده ..هارسمك ".

بحثت بين التلاميذ , بلا جدوى , سألت التلاميذ "أين هند؟ " علت أصوات عدة تلاميذ وتداخلت سريعاً , فلم أتبين ما يقولون ’ فطرقت بقوة على المنضدة ليهدأو لأجد إجابة , عاد الصمت , فأشرت إلى من تجلس بجوارها "أين هند ؟"
فردت البنت " غائبة منذ يومين "

أنظري , نرسم العين هكذا .. ثبتي القلم جيداً , نعم هكذا , لا تجعلي القلم يهتز  , نعم , نعم , رائع
بعد أن تكملي قوساً , ارسمي في مقابله قوساً أخر , لا بأس , لا بأس , لا تتوقفي , رائع جداً
ارسمي داخل هذان القوسان دائرة .  جميل يا هند أنت رسامة موهوبة , فابتسمت .

عين ماما جميلة , لكن لما بتكون زعلانه مني  "بتبرق كده "
تتقمص هند وجه أمها حينما تغضب لتتسع عيناها فأكتم ضحكة , وأسألها "لماذا تغضب "ماما"؟
"أحياناً بتكلم مع جي جي , ولما ماما بتشوفني ..  بتزعق " انتي مجنونة عشان تكلمي عروسة مش بتعرف تسمع ولا تتكلم .. المجانين بس هما اللي بيعملوا كده "
أنا أحب ماما ولكن لا أحبها وهي غاضبة من "جي جي "  ليه مش بتحبها هي مش بضرها .

من الصعب أحياناً أن نقتلع الذكريات , أن نجتثها ببساطة كنبتة تضرب بجذورها فينا ,أن نستيقظ في الصباح , بدون ذكريات , فلا نتعرف على وجوهنا في المرايا .
تذوب حلاوة الذكريات الجميلة وتترك في الفم مرارة يدوم تأثيرها لبعض الوقت .
هنا مقعد "هند" كان يحتك كل يوم بفستانها الوردي وتلك المنضدة كانت بالفعل سعيدة باحتضان كفيّها الصغيرين , هذا قلمها الرصاص , كم وضعته بين أناملها الصغيرة , لتخط به كلمات مرتعشة أو رسم به زهور وفراشات وشمس تبتسم. 

تعال هنا , قف أمام زملاؤك , حافظ على النظام حتى أعود "فهمت " أومأ برأسه , وخرجت أنا ورأسي تنهشه كثرة الاحتمالات والشكوك , وبينما أنا أسير بدون وجهه مُحددة إذ قابلني أحد الزملاء , تلقفته سريعاً , قرأني على الفور وقرأ سؤالي " أين هند ؟" أتعلم شيئاً ؟
جذبني من ذراعي , ودخلنا فصلاً فارغاً , أغلق الباب بإحكام ,أستند بجزعة على أحد الأدراج , سحب سيجارة وأشعلها , سحب نفساً عميقاً ونفثه وكأنه يزيح ثقلاً عن صدره , "ماذا هناك ؟" لماذا صمّتَ الأن ؟ أخبرني
سأخبرك ولكن تماسك .

مررت بأطراف أناملي على ألوان "رسمتها", خطوطها البسيطة المتعرجة , كان ملمسها يتدرج بين الناعم والخشن , ابتسامة تشبه ابتسامتي تضيء منتصف الوجه ’ شعرت برجفة وأختل توازني فارتكزت على أحد الكراسي فأسرع زميلي يتلقفني , فأشرت له بيدي لإبعاده .

" أنا رسمتك " ... وابتسامة بعرض وجهها , أعطتني إياها , ورقة مطوية , ولم أكد أخذها حتى جرت هاربة حتى لا ترى رد فعلي , فتحتها لأجد خطوط تنضب بالطفولة والبراءة , أنا و هي و دُميتها .. نحن الثلاثة فقط

انحدرت دمعة رغماً عني لتبلل وجهها الصغير فتختلط الألوان وتمحو ابتسامتها .


كيف حدث هذا ؟ كيف ؟ كيف امتدت يده لتسحق كل شئ جميل فيها , بماذا شعرت حينها المسكينة وهي مكتوفة الأيدي , عاجزة عن كف الأذى , ظبية صغيرة لم تمكنها أرجلها الضعيفة من الهروب من براثن حيوان ضاري , غرس مخالبه في رقبتها الصغيرة بمنتهى القسوة , بدون تفكير لحظة في العواقب
أصرخت ؟ أم كتمت صرختها ؟ امتلأت عيناها بالدموع وأكتسح مزيجاً من الخوف والحيرة قلبها الصغير لأول مرة  , هي لا تدرك أن بقعاً سوداء مؤلمة قد طبعت داخلها إلى الأبد , لن يستطيع الوقت محوها , لن تنساها , ستبقى داخلها الرعشة الأولى لا تفارقها  , أنفاسه الحارة الكريهة , ملمس أصابعه الغليظة , نظراته الحيوانية التي تأكل جسدها الصغير الذي لم يعرف الأنوثة .
لن تنسى عجزها واستسلامها .

أجهشت بالبكاء وشعرت أنه بكاء للأبد , لن ينتهي , سقطت في دوائر لا تنتهي  , أخرجتني منها فجأة يدُ زميلي تربت على كتفي . ثم قال : نسيت أن أخبرك أنها بالأسفل .

الأعمار لا تقاس بالشهور والسنوات  , الأعمار تُقاسُ بكم الألم وفداحة التجربة , طالما أنت لم تتألم ولم تجرب فأنت لم تولد , نحن نولد بالألم ونعيش ونموت بالألم وبينهما ومضات من الفرحة تخفف منه قليلاً , تخدرنا وتبقينا أحياء لحين ألم جديد .
حينما نولد نصرخ من الألم  ,  ألم اجتياح هواء الأرض المُلوث لرئتنا الصغيرة.

لمحتها , تجلس مع والديها في غرفة المدير , بدت مختلفة , ملامحها تكسوها الحزن , غرقت ابتسامتها , خفتت , وجهها وجه طفلة في الأربعين , كنت أود أن أتقدم ,أن أفتح الباب ,أختطفها وأودعها صدري ,أبقيها واحتفظ بها لي أنا وحدي , أحتفظ ببراءتها المتبقية .
أضمها بشدة , ربما عادت هند , ربما عادت هند .
أرغب أن أهمس في أذنها " أنا أسف يا هند , لم أحافظ على ابتسامتك في "الرسمة ", دموعي أذابت ابتسامتك .