مــعـــطـــف مـــن نـــوع آخــــر
كأنه صادق حانات وكؤوس النسيان , يعود كل ليلة إلى غرفته المعتمة التي عششت في جوانبها خيوط العنكبوت , كروحه تماما , تجد الكتب المتراصة كأنها تجذب الغريب أن يرفعها , ينفخ الأتربة من فوق الغلاف , ويقلب بين الصفحات التي ما أن يفتحها , تهاجمه رائحة الأوراق العتيقة , الأوراق الصفراء الشاحبة التي تاهت بين سطورها الكلمات.
كاتب قصص , نعم هو كاتب قصص وحكايات , يعشق البوح , يعشق أن يخلق أبطاله ويزج بهم في أحداث تحركهم وتدفعهم دفعا, يتحكم بمصائرهم ويقرر سعادتهم وبؤسهم , أبطال على الورق , يشكلهم من الحروف والكلمات على هواه, هنا على مكتبه بين أقلامه وفي غرفته المنعزلة عن ضجيج الكون , يجلس بين أبطاله و يشعر أنه الآمر الناهي , هنا فقط وليس في أي مكان آخر.
بالتأكيد قصاصاته لا تأمن له خبزاً كافياً يقتات عليه , بل له وظيفة أخرى لايحبها ولا يحب ذكرها أبداً بين أصدقائه , قالوا يعمل نادلاً في خمارة يقدم كؤوس شراب , وقالوا يعمل في مكتبة عتيقة في مصر القديمة مع كهلٍ نساه الزمن , وقالوا يعمل مع طبيب للأمراض النفسية والعقلية كتمرجي , قالوا وقالوا كثيراً ولا أحد يعلم الحقيقة أين ؟ ... يستيقظ مع انسحاب آخر أشعة للشمس , ليبدأ رحلة ليلية يعود بعدها مع شمس الصباح ... وهكذا دواليك .
الإنسان كائن محبٌ للبوح ... عاشق ومتيم ومجذوبٌ بالحكايات حتى لو كانت أساطير وخرافات , ولكنها تومض أجزاءاً في سبات عميق , عندما تبدأ في سرد حكايتك , تجدهم قد أودعوا لديك أذانهم وخيالهم ... تتسارع نبضات قلوبهم عندما تقترب الأحداث من ذروتها , من اللحظات الفاصلة , تجدهم قد قدموا لك دموعهم تأثراً بشخوص في خيالك أنت , ولكنك كأنك تزرعها في خيالاتهم , لتجعل تلك الشخوص من لحم ودم , كأنك تصورها أمامهم وهم يمارسون حياتهم اليومية , هنا يجتمع أفراد أسرة يتناولون وجبتهم الآخيرة وهم لا يعلمون ذلك , وهنا فتاة في العشرين تقف خلف النافذة ولا تعلم أن حبيباً يطرق الأبواب الأن ,ليأخذها إلى عالم حلمت به منذ أمد , وهنا سائق عربة لا يعلم أنه سيعود إلى بيته ليجد زوجته تبشره بآمال تعاود من جديد .... لا تنتهي الحكايات , هي مستمرة بإستمرار الحياة , كأننا نعيش حكاية كبيرة نحن ننسجها ولا ندري , نعيشها ولا نعي ما تخبئه بين ثنايها , كأن تلك الحكايات نتوارثها كجينات داخل خلاينا من جيل إلى جيل إلى يوم الدين .
وضع القلم وآخذ يرسم في خياله تلك البطلة كأنها مركزاً لمجرة جديدة ولكنها على الورق , تدور في فلكها الأحداث والشموس والكواكب والأقمار والشخوص في دوران لامتناهي , فبعد أن كتب مقدمة بسيطة عن البوح والحكايات , آخذ في تشكيلها ونحتها كأنها تمثال لأفروديت أخرى , آخذت تتعاظم وتتعاظم حتى ......... طرق شديد على الباب , الساعة الأن تقارب السادسة صباحاً , من ياترى يطرق الباب في ذلك الوقت , قرر ألا يجيب , ولكن الطرق تزايد , قام في عصبية ليفتح الباب , ليجد صديقاً , يدخله مستفهماً عن سبب زيارته له في هذا الوقت المبكر ... كانت علامات الذعر والإنهاك ظاهرة على وجه صديقه , حاول أن يستفهم , وصديقه يشير له بيده أن ينتظر قليلاً حتى يسترد أنفاسه .........
وضع القلم مرة أخرى , ليست بداية موفقة , أحياناً تهرب منه الأحداث المتلاحقة كما لو كانت فرسه جامحة تطيح بفارسها ولجامه, إما ضعفاً من الفارس أو لجموح الفرسه , نعم لقد نحت تلك الشخصية الخرافية لإمرآة تدور في فلكها الأحداث والشخوص وتوقف عند ذلك الجرف لا يعرف أين يذهب ولا يعرف له سبيل , ينظر إلى الساعة التي قاربت منتصف الليل , يقرر النزول متجاهلاً كل مخاطر تلك الساعة , يرتدي معطفه القديم ويلف وشاحه المغبر , لا بأس من تمشية في شوارع وسط البلد الخالية الآن من المارة , عله يتصيد أفكاراً لحكايته الجديدة , كان يسمع من بعيد ضجة تحملها الرياح مصدرها ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف , لم يلتفت وآكمل طريقه , لم يشعر برغبة في التوجه الى هناك الى حيث اصدقاءه جميعاً , يتذكر تلك الليلة التي قرر فيها أن يبيت هناك , وطاردته الأسئلة كما لو كانت وحوشاً تنهش فيه , كانت النظرات تلتهمه التهاماً وتلقي به في قبو مظلم كالشارع الذي يسير فيه الآن , قطع تفكيره نحيب مكتوم يأتي من آخرالشارع , لم يتبين من أين , ولكنه تخيل أن شخص ما يجلس على الرصيف هناك في نهاية الشارع , لم يتبين ماهيته بسبب الظلام وربما بعد المسافة , آخذ يقترب في هدوء وهو يوقن أن مصدر الصوت ذلك الشخص , وما أن قطع نصف المسافة حتى وجد هذا الشخص, الذي تبين انه آمرأه تنهض بسرعة وتبتعد مسرعة مُخلفة وراءها شئ ما , كأنه طفل رضيع ..... أقترب أكثر وهو يسرع عله يحمل الطفل ويعطيه لأمه , حمل بين يديه ما كان يظن أنه طفلاً ... ولكنه تبين أنه ليس طفلاً ...أنه .. أنه معطفٌ مكوّم .
واضعاً المعطف الذي ظنه طفلاً تحت إبطه وصاعداً السلم إلى غرفته , وما ان دخل إلى غرفته حتى فرَدَ المعطف, وكأنها تجسدت أمامه تلك الخرافية , كأنه يراها الأن وهي تتبختر بمعطف أبرز مفاتنها , بطلته التي نحتها بكلتا يديه على الورق , كأن المعطف قد صُنع لها خصيصاً هي وحدها فقط , وضع المعطف بحذر على أريكته كأنه يحمل رضيعه الأول ويضعه في سريره الصغير . ووقف هنيهه يتابعه ويتأمله وكأنه فتن به , أبتعد عنه ببطأ إلى الوراء ولم يرفع ناظريه عنه حتى أقترب من سريره , فجلس قليلاً ثم مال بظهره الى الوراء شارداً ومستلقياً على السرير حتى ذهب بعيداً .. بعيداً حيث عالمه .. عالم الحكايات .
لي شئٌ يخصني عندك " هكذا فتح عينيه في وقت مبكر لم يعتاد ان يستيقظ فيه , انها العاشرة صباحاً وقد ذعر على طرق شديد ,ليفتح الباب فيجد حارس العمارة وبجوارة إمرآة فقط ...... هكذا هي امرآة , لا توصف بكلمة أخرى غير أنها امرآة , امرآة بكل ما تعنيه الكلمة .... دعاها للدخول وشكر الحارس , " أعتذر المكان لا يليق كما ترين" .... " لا يهم , لا يهم ولكن لي شئٌ يخصني عندك "
" ها ... ماذا تقصدين " ....... " هذا هو ... النائم على أريكتك"
" هذا المعطف ... هو لكي "
" نعم هو لي " وبدأت المرآة في رفع المعطف ولكنه سارع و اختطفه من بين يديها
" ماذا هناك ... أليس من العيب أن تأخذ شيئاً ليس لك , أنك غريب الأطوار حقاً .. ماذا تفعل ياترى بمعطف نسائي كهذا"
.....
" أتعطيه لحبيبتك ؟ "
" ليس لي أحباب "
" إذن لماذا انت متمسك به هكذا ؟ "
" وكيف أعلم انه لكي ؟"
"هناك حيث الميدان ...ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف, هناك حيث اصدقاءك جميعاً , هناك حيث الشارع المظلم الذي كنت أجلس في نهايته على الرصيف "
ولماذا كنتي تبكين ؟
لا يخصك
" إذن لماذا تركتيه ؟ "
" جل من لا يسهو "
في أثناء ذلك الشد والجذب , كان المعطف يُسحب من بين يديه , ليستفيق فجأه وهي ترتديه , ليرى فيها بطلته التي تحولت فعلاً إلى حقيقة من الورق إلى كائن من لحم ودم , نعم إنها هي مجرة تدور في فلكها الشموس والكواكب والأقمار .
توالت اللقاءات هنا وهناك , كأنه أقتيد في طريق لا يعلم له آخر , طريق يُسمى مجازاً بالحب , أحب بطلته الجديدة , عرف النهار وعرف الميدان وعرف الحرية ,بالتأكيد لاحظ أصدقائه ومعارفه تغيراً ملحوظاً وغير متوقع أبداً, فلأول مرة يخبر أصدقائه أنه يعمل في عيادة لطبيب ليس مغموراً هناك عند أسوار القاهرة القديمة , كان يستيقظ مبكراً ليهجر الليل وكائناته الكئيبة , ليبدأ حكاية جديدة يصنعاها سوياً كأنها عجينة يشكلنها كما يحبان بالزعتر كانت أم بالنعناع , فنجان قهوة صباحية يقلبانه سوياً فتغمس أصبعها ليتذوق الحلاوة ويحدد .. مقطوعة موسيقية يؤلفان نوتة لها سوياً ويرقصان رقصتهما على آلحانها ، هما فقط . نسي المعطف وتعلق بصاحبته التي لايعلم من أين هبطت عليه , لم يستفهم ولم يسئل كثيراً , كأنها هدية من السماء لا يجوز السؤال لماذا ولا كيف بل عليه أن يتقبلها فقط .
وضع القلم أخيراً بعد أن أدرك الأن أنه تمرس في ترويض فرسته الجامحة , تمكن من الأحداث تمكناً تاماً , وأصبح يوجه الدفه أينما يشاء , نظر إلى الساعة التي قاربت على الرابعة عصراً , لتعلن عن قرب مجيئ المرأة ذات المعطف , يفكر كيف غيرت تلك المرآة حياته من النقيض الى النقيض بدون أن يدري , سلبته عقله وفؤاده معاً حتى بات لا يفرق بين الواقع والخيال , بين مالمسه بيديه وما يدور في خيالاته.
ينظر في الساعة مرة أخرى ليكتشف أنها قاربت على منتصف الليل,ويكتشف فجأة أن المعطف مازال جاثياً بثقله على أريكته لم يتزحزح , أين بطلته وأين ......
يبدو ... يبدو أنه تاه في وسط النص في دوامة ..كأنها أحدى المجرات , نعم تلك المجرة التي تدور في فلكها الشموس والأحداث والكواكب والأقمار و الشخوص وكل شئ , إنها تلك المرأة , إنها تلك المجرة , هل أصبح هو الآخر يدور في فلكها بدون أن يشعر , جذبته في مدارها حتى أصبح واحداً من تلك الأشياء ... مجرد شئ , لم يصدق أنه أسر بتلك السهولة , فجأة وبدون مقدمات بات أسيراً لكائن خلقه بيديه .. شكله ونحته كتمثال آخر لأفروديت ... حمل المعطف بين يديه ونزل إلى الميدان باحثاً عنها ... إمرأة ... إمرأة بكل ما تعنيه الكلمة , لم يُدرك أنها لم تخلق بعد لم تخلق إلا في خيالاته , كان مازال مأسوراً بها هائماً على وجهه باحثا عنها بين الوجوه , رفع المعطف عالياً في وسط الميدان وأخذ يصرخ " لمن هذا المعطف ؟ " ظنوه مجنوناً ! كان الجموع في وادي وهو في وادي آخر, لم يجدها ولن يجدها برغم أن داخله آمل أن يصحو على طرقات سريعة وعنيفة على الباب لتوقظه من نوم ثقيل ليسارع لفتح الباب ويجدها تأتي لتسترد معطفها الذي نسيته في أحد المرات السابقة .
ترك القلم وأحتضن المعطف وقرر أن يخرج من دائرة النص التي صنعها بنفسه وأُسر داخلها ... ليفتح الباب ويسمع من بعيد ضجة تحملها الرياح مصدرها ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف... ويقرر أن يترك نفسه للرياح علها تحمله إلى صاحبة المعطف الذي يحمله.