Tuesday, March 29, 2011

- معطف من قيود - الجزء الثامن

 مــعـــطـــف مـــن نـــوع آخــــر
كأنه صادق حانات وكؤوس النسيان , يعود كل ليلة إلى غرفته المعتمة التي عششت في جوانبها خيوط العنكبوت , كروحه تماما , تجد الكتب المتراصة كأنها تجذب الغريب أن يرفعها , ينفخ الأتربة من فوق الغلاف , ويقلب بين الصفحات التي ما أن يفتحها , تهاجمه رائحة الأوراق العتيقة , الأوراق الصفراء الشاحبة التي تاهت بين سطورها الكلمات.
كاتب قصص , نعم هو كاتب قصص وحكايات , يعشق البوح , يعشق أن يخلق أبطاله ويزج بهم في أحداث تحركهم وتدفعهم دفعا, يتحكم بمصائرهم ويقرر سعادتهم وبؤسهم , أبطال على الورق , يشكلهم من الحروف والكلمات على هواه, هنا على مكتبه بين أقلامه وفي غرفته المنعزلة عن ضجيج الكون , يجلس بين أبطاله و يشعر أنه الآمر الناهي , هنا فقط وليس في أي مكان آخر.
بالتأكيد قصاصاته لا تأمن له خبزاً كافياً يقتات عليه , بل له وظيفة أخرى لايحبها ولا يحب ذكرها أبداً بين أصدقائه , قالوا يعمل  نادلاً في خمارة يقدم كؤوس شراب  , وقالوا يعمل في مكتبة عتيقة في مصر القديمة مع كهلٍ نساه الزمن , وقالوا يعمل مع طبيب للأمراض النفسية والعقلية كتمرجي , قالوا وقالوا كثيراً ولا أحد يعلم الحقيقة أين ؟ ... يستيقظ مع انسحاب آخر أشعة للشمس , ليبدأ رحلة ليلية يعود بعدها مع شمس الصباح ... وهكذا دواليك .
الإنسان كائن محبٌ للبوح ... عاشق ومتيم ومجذوبٌ بالحكايات حتى لو كانت أساطير وخرافات , ولكنها تومض أجزاءاً في سبات عميق , عندما تبدأ في سرد حكايتك , تجدهم قد أودعوا لديك أذانهم وخيالهم ... تتسارع نبضات قلوبهم عندما تقترب الأحداث من ذروتها , من اللحظات الفاصلة , تجدهم قد قدموا لك دموعهم تأثراً بشخوص في خيالك أنت , ولكنك كأنك تزرعها في خيالاتهم , لتجعل تلك الشخوص من لحم ودم , كأنك تصورها أمامهم وهم يمارسون حياتهم اليومية , هنا يجتمع أفراد أسرة يتناولون وجبتهم الآخيرة وهم لا يعلمون ذلك , وهنا فتاة في العشرين تقف خلف النافذة ولا تعلم أن حبيباً يطرق الأبواب الأن ,ليأخذها إلى عالم حلمت به منذ أمد , وهنا سائق عربة لا يعلم أنه سيعود إلى بيته ليجد زوجته تبشره بآمال تعاود من جديد .... لا تنتهي الحكايات , هي مستمرة بإستمرار الحياة , كأننا نعيش حكاية كبيرة نحن ننسجها ولا ندري , نعيشها ولا نعي ما تخبئه بين ثنايها , كأن تلك الحكايات نتوارثها كجينات داخل خلاينا من جيل إلى جيل إلى يوم الدين .
وضع القلم وآخذ يرسم في خياله تلك البطلة كأنها مركزاً لمجرة جديدة ولكنها على الورق , تدور في فلكها الأحداث والشموس والكواكب والأقمار والشخوص في دوران لامتناهي , فبعد أن كتب مقدمة بسيطة عن البوح والحكايات , آخذ في تشكيلها ونحتها كأنها تمثال لأفروديت أخرى , آخذت تتعاظم وتتعاظم حتى ......... طرق شديد على الباب , الساعة الأن تقارب السادسة صباحاً , من ياترى يطرق الباب في ذلك الوقت , قرر ألا يجيب , ولكن الطرق تزايد , قام في عصبية ليفتح الباب , ليجد صديقاً , يدخله مستفهماً عن سبب زيارته له في هذا الوقت المبكر ... كانت علامات الذعر والإنهاك ظاهرة على وجه صديقه , حاول أن يستفهم , وصديقه يشير له بيده أن ينتظر قليلاً حتى يسترد أنفاسه .........
وضع القلم مرة أخرى , ليست بداية موفقة , أحياناً تهرب منه الأحداث المتلاحقة كما لو كانت فرسه جامحة تطيح بفارسها ولجامه, إما ضعفاً من الفارس أو لجموح الفرسه , نعم لقد نحت تلك الشخصية الخرافية لإمرآة تدور في فلكها الأحداث والشخوص وتوقف عند ذلك الجرف لا يعرف أين يذهب ولا يعرف له سبيل , ينظر إلى الساعة التي قاربت منتصف الليل , يقرر النزول متجاهلاً كل مخاطر تلك الساعة , يرتدي معطفه القديم ويلف وشاحه المغبر , لا بأس من تمشية في شوارع وسط البلد الخالية الآن من المارة , عله يتصيد أفكاراً لحكايته الجديدة , كان يسمع من بعيد ضجة تحملها الرياح مصدرها ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف , لم يلتفت وآكمل طريقه , لم يشعر برغبة في التوجه الى هناك الى حيث اصدقاءه جميعاً , يتذكر تلك الليلة التي قرر فيها أن يبيت هناك , وطاردته الأسئلة كما لو كانت وحوشاً تنهش فيه , كانت النظرات تلتهمه التهاماً وتلقي به في قبو مظلم كالشارع الذي يسير فيه الآن , قطع تفكيره نحيب مكتوم يأتي من آخرالشارع , لم يتبين من أين , ولكنه تخيل أن شخص ما يجلس على الرصيف هناك في نهاية الشارع , لم يتبين ماهيته بسبب الظلام وربما بعد المسافة , آخذ يقترب في هدوء وهو يوقن أن مصدر الصوت ذلك الشخص , وما أن قطع نصف المسافة حتى وجد هذا الشخص, الذي تبين انه آمرأه تنهض بسرعة وتبتعد مسرعة مُخلفة وراءها شئ ما , كأنه طفل رضيع ..... أقترب أكثر وهو يسرع عله يحمل الطفل ويعطيه لأمه , حمل بين يديه ما كان يظن أنه طفلاً ... ولكنه تبين أنه ليس طفلاً ...أنه .. أنه معطفٌ مكوّم .
واضعاً المعطف الذي ظنه طفلاً تحت إبطه وصاعداً السلم إلى غرفته , وما ان دخل إلى غرفته حتى فرَدَ المعطف, وكأنها تجسدت أمامه تلك الخرافية , كأنه يراها الأن وهي تتبختر بمعطف أبرز مفاتنها , بطلته التي نحتها بكلتا  يديه على الورق , كأن المعطف قد صُنع لها خصيصاً هي وحدها فقط , وضع المعطف بحذر على أريكته كأنه يحمل رضيعه الأول ويضعه في سريره الصغير . ووقف هنيهه يتابعه ويتأمله وكأنه فتن به , أبتعد عنه ببطأ إلى الوراء ولم يرفع ناظريه عنه حتى أقترب من سريره , فجلس قليلاً ثم مال بظهره الى الوراء شارداً ومستلقياً على السرير حتى ذهب بعيداً .. بعيداً حيث عالمه .. عالم الحكايات .
لي شئٌ يخصني عندك " هكذا فتح عينيه في وقت مبكر لم يعتاد ان يستيقظ فيه , انها العاشرة صباحاً وقد ذعر على طرق شديد ,ليفتح الباب فيجد حارس العمارة وبجوارة إمرآة فقط ...... هكذا هي امرآة , لا توصف بكلمة أخرى غير أنها امرآة , امرآة بكل ما تعنيه الكلمة .... دعاها للدخول وشكر الحارس , " أعتذر المكان لا يليق كما ترين" .... " لا يهم , لا يهم ولكن لي شئٌ يخصني عندك "
" ها ... ماذا تقصدين " ....... " هذا هو ... النائم على أريكتك" 
" هذا المعطف ... هو لكي "
" نعم هو لي "  وبدأت المرآة في رفع المعطف ولكنه سارع و اختطفه من بين يديها 
" ماذا هناك ... أليس من العيب أن تأخذ شيئاً ليس لك , أنك غريب الأطوار حقاً .. ماذا تفعل ياترى بمعطف نسائي كهذا"
.....
" أتعطيه لحبيبتك ؟ "
" ليس لي أحباب "
" إذن لماذا انت متمسك به هكذا ؟ "
" وكيف أعلم انه لكي ؟"
"هناك حيث الميدان ...ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف, هناك حيث اصدقاءك جميعاً , هناك حيث الشارع المظلم الذي كنت أجلس في نهايته على الرصيف "
ولماذا كنتي تبكين ؟
لا يخصك
" إذن لماذا تركتيه ؟ "
" جل من لا يسهو "
في أثناء ذلك الشد والجذب , كان المعطف يُسحب من بين يديه , ليستفيق فجأه وهي ترتديه , ليرى فيها بطلته التي تحولت فعلاً إلى حقيقة من الورق إلى كائن من لحم ودم , نعم إنها هي مجرة تدور في فلكها الشموس والكواكب والأقمار .
توالت اللقاءات هنا وهناك , كأنه أقتيد في طريق لا يعلم له آخر , طريق يُسمى مجازاً بالحب , أحب بطلته الجديدة , عرف النهار وعرف الميدان وعرف الحرية ,بالتأكيد لاحظ أصدقائه ومعارفه تغيراً ملحوظاً وغير متوقع أبداً, فلأول مرة يخبر أصدقائه أنه يعمل في عيادة لطبيب ليس مغموراً هناك عند أسوار القاهرة القديمة , كان يستيقظ مبكراً ليهجر الليل وكائناته الكئيبة , ليبدأ حكاية جديدة يصنعاها سوياً كأنها عجينة يشكلنها كما يحبان بالزعتر كانت أم بالنعناع , فنجان قهوة صباحية يقلبانه سوياً فتغمس أصبعها ليتذوق الحلاوة ويحدد .. مقطوعة موسيقية يؤلفان نوتة لها سوياً ويرقصان رقصتهما على آلحانها ، هما فقط . نسي المعطف وتعلق بصاحبته التي لايعلم من أين هبطت عليه , لم يستفهم ولم يسئل كثيراً , كأنها هدية من السماء لا يجوز السؤال لماذا ولا كيف بل عليه أن يتقبلها فقط .
وضع القلم أخيراً بعد أن أدرك الأن أنه تمرس في ترويض فرسته الجامحة , تمكن من الأحداث تمكناً تاماً , وأصبح يوجه الدفه أينما يشاء , نظر إلى الساعة التي قاربت على الرابعة عصراً , لتعلن عن قرب مجيئ المرأة ذات المعطف , يفكر كيف غيرت تلك المرآة  حياته من النقيض الى النقيض بدون أن يدري , سلبته عقله وفؤاده معاً حتى بات لا يفرق بين الواقع والخيال , بين مالمسه بيديه وما يدور في خيالاته.
ينظر في الساعة مرة أخرى ليكتشف أنها قاربت على منتصف الليل,ويكتشف فجأة أن المعطف مازال جاثياً بثقله على أريكته لم يتزحزح , أين بطلته وأين ...... 
يبدو ... يبدو أنه تاه في وسط النص في دوامة ..كأنها أحدى المجرات , نعم تلك المجرة التي تدور في فلكها الشموس والأحداث والكواكب والأقمار و الشخوص وكل شئ , إنها تلك المرأة , إنها تلك المجرة , هل أصبح هو الآخر يدور في فلكها بدون أن يشعر , جذبته في مدارها حتى أصبح واحداً من تلك الأشياء ... مجرد شئ , لم يصدق أنه أسر بتلك السهولة , فجأة وبدون مقدمات بات أسيراً لكائن خلقه بيديه .. شكله ونحته كتمثال آخر لأفروديت ... حمل المعطف بين يديه ونزل إلى الميدان باحثاً عنها ... إمرأة ... إمرأة بكل ما تعنيه الكلمة , لم يُدرك أنها لم تخلق بعد لم تخلق إلا في خيالاته , كان مازال مأسوراً بها هائماً على وجهه باحثا عنها بين الوجوه , رفع المعطف عالياً في وسط الميدان وأخذ يصرخ " لمن هذا المعطف ؟ "  ظنوه مجنوناً !  كان الجموع في وادي وهو في وادي آخر, لم يجدها ولن يجدها برغم أن داخله آمل أن يصحو على طرقات سريعة وعنيفة على الباب لتوقظه من نوم ثقيل ليسارع لفتح الباب ويجدها تأتي لتسترد معطفها الذي نسيته في أحد المرات السابقة .
ترك القلم وأحتضن المعطف وقرر أن يخرج من دائرة النص التي صنعها بنفسه وأُسر داخلها ... ليفتح الباب ويسمع من بعيد ضجة تحملها الرياح مصدرها ميدان واسع ورحيب يعج بالآلاف... ويقرر أن يترك نفسه للرياح علها تحمله إلى صاحبة المعطف الذي يحمله.

Sunday, March 27, 2011

مُـــخـــتـــلـف


كنت أسارع الدقائق والثواني , قبل أن ينتقل العقرب الصغير ليعلن منتصف الليل , كانت دقات قلبي قد توحدت مع ساعة اليد في معصمي , أسارع الخطى قبل الثانية عشر , قبل موعد حظر التجوال , أنظر إلى الهاتف الجوال , الذي أستسلم منذ قليل للإنهاك والتعب بعد يوم شاق , أحاول أن أنعشه قليلاً عله يعود , كل ما أخشاه الآن أن يحدث لي مكروهاً ولا أستطيع أن أخبرهم في المنزل عن مكاني , بالتأكيد هم الآن في غاية القلق والفزع , أتخيل أبي يقف أمام الباب , وأمي تبحث في المفكرة عن أرقام أصدقائي لتتصل بهم وتسألهم عني , بالتأكيد سيخبرونها أنني تركتهم منذ أكثر من ساعة , اللعنة على الطرق وخطوط السير المزدحمة قبل ساعات الحظر.
أنها الثانية عشر وأسمع الآن بأذني صوت أبواق عربات دوريات الحظر, وقد بدأت في شق طريقها الخالي والموحش إلا من بعض الهوام و بعض سيئي الحظ مثلي , أركض وأركض في الشوارع الجانبية , تتقافز الأفكار في خاطري  , رؤيتهم لي فقط وأنا أركض كافية لتثير الشك والريبة في نفوسهم , إذاً ماذا أفعل هل أسير بشكل طبيعي , أم ماذا ؟  
أحاول أن ألتقط أنفاسي مختبئاً بجوار صندوق نفايات في زقاق ضيق جانبي , أقرر أن أركض على جانب الشارع وإذا شعرت بقرب إحدى الدوريات , فلأختبئ بسرعة في أحد الأزقة الجانبية,
أسير على الخطة التي قررتها , ركضت كثيراً على الرصيف , وفجأة رأيت أضواء مصابيح عربات الدورية الساقطة على الإسفلت عند التقاطع , تراجعت بخطوات فزعة حتى لا أثير جلبة, وما أن استدرت لأدخل زقاقاً حتى شعرت بكفٍ ثقيلة تدفعني بقوة لأرتطم بالرصيف , أحاول أن ألتفت إلى الوجه , ولا ألمح إلا خوذة صماء ... أرى فيها انعكاس ملامح موجهي المذعورة !

لا أشعر إلا وإبرة تنسحب بعنف من يدي , لأكتشف أني قد وقعت في يد دوريات الأمن , كنت مستلقياً على سطح أملس وبارد و يدي اليسرى مُقيدة في أحد الأعمدة خلفي , جاء أحدهم ليفحص يدي اليمنى ويرفع ذقني إلى الخلف , ويذهب ... لا تتخيلون أبداً كم الأفكار الرهيبة التي كانت تتخبط في رأسي وتتصارع , كانت تتوالد وتختفي كأمواج هادرة تضرب بلا هوادة داخلي مُخلفة رعشة قوية ليست سبباً لبرودة الجو أو حتى السطح البارد الأملس الذي أرقد عليه , قطع شرودي في السقف المصمت أحد الحراس ( هكذا ظننت ) ليفك القيد ويصطحبني إلى غرفة أخرى تشبه غرفة تحقيق , تشبه التي أراها في الأفلام , مصباح صغير معلق في وسطها , مُسقطاً ضوءه في وسط الغرفة .

 في ذلك اليوم عندما عدت بصحبة أبي وأخي , نُهرت كثيراً من كليهما , وما أن فتحت الباب حتى أخذتني أمي بين ذراعيها وتخيلت أنها لن تتركني بعدها أبداً , نظرت لي ولطمتني لطمة خفيفة , كان لها وقعاً أكبر من تلك الضربة التي تلقيتها في الزقاق تلك الليلة , كانت تحاول النظر في عينيّ وأنا أشيح بوجهي إلى الأرض , لا أريدهم أن يروا دموعي رفعت رأسي و كانت تقبض بيديها على كتفيّ وتهزني بعنف " أنت رجل ... أنت رجل ..الرجال لا يبكون " .

لا أنسى أبداً تلك الدقائق الأخيرة في مقر الأمن في تلك الغرفة , رجل في اواخرالثلاثين يجلس على كرسي خلف المكتب الصغير , يشعل سيجارة , يقدم لي واحدة  فأومئ برأسي بالرفض على استحياء و يبدأ في الحديث : أنت تعلم ظروف البلاد جيداً لذا أنصحك في المرة القادمة ألا تتأخر إلى هذا الوقت , تواجدك في الطرقات إلى هذا الوقت يعرضك إلى الإعتقال .
أتهيأ لإطلاق بعض الكلمات ولكنه يسبقني "أعلم أنك لم تقصد ذلك لقد تأكدنا من هويتك " ...... وفي لمح البصر قفز بجسده فوق المكتب ليمسك بذقني بعنف " إذا كان هذا لايعجبك .... هَاجر ..أترك البلاد ..نحن لسنا جالسون هنا لنقبض على أمثالك لنكتشف بعدها أن طفلاً كان يلهو في الشارع لوقت متأخر " ....كان صوته يعلو ويعلو ورذاذه يخترق مسام وجهي بعنف , ترك ذقني وانتفض من مكانه فقمت بدوري لأجده يقبض بيده رقبتي ويدفعني إلى الحائط " إياك ... إياك أن نجدك مرة أخرى حينها لن يعثر عليك أباك أبداً " و سدد في بطني ضربة سقطت على الأرض على إثرها وأنهال بقدميه يركلني في أنحاء جسدي بعنف, وعاد إلى كرسيه لينفس الدخان كما لو كان ثعباناً ينفس سُماً و هو يطلق بعض الضحكات وأناأتلوى من الألم.
هَاجر" تلك الكلمة التي ترددت لأيام داخلي , بل لأسابيع كنت أتحاشى النظر إلى أبي , وهو أدرك السبب , يبدو أنه كان مُتفهماً , ترك ذلك المحقق داخلي أثراً سيئاً لا تمحوه الأيام ولا الأسابيع , كنت لا أطيق النظر في وجه أبي , كنت أشعر أنه يتألم بل يتقطع من داخله , لم ... لم تتلاقى عيوننا منذ فترة طويلة , في تلك الليلة , كنت مستلقياً على السرير .. لم أغفو بعد , وسمعت طرقاً على الباب , أجبت " من ؟ " ..... " أنا ... أنا أبوك " ..بصوت منخفض ومستكين , عضضت على شفتي , ونهضت في بطأ إلى الباب , وأرتميت جالساً وراءه " ماذا تريد ؟ .... أتركني أرجوك ..أتركني الأن , لا أريد أن أراك , لا أريد أن أسمع صوتك ..!؟
أرجوك يا بني .....أ ..أ..أنا أبوك وليس المحقق ...أعلم  أن هذا مؤلم ....؟
أرجوك ...أرجوك إبتعد ...إبتعد ..إذهب بعيداً 
  لمـــاذا "  أطلقها أبي وكأنه يقتلع شوكة من قلبه , أحسست بالألم في بحة صوته المتهدج وهو يمتنع عن البكاء 
ضربت على الباب عدة ضربات ...ونهضت من مكاني وفتحت الباب بعنف 
نظرت في عينيه ..وكأنه تلقى ضربة مني ...." أتعلم لماذا لا أريد أن أراك ...أتعلم لماذا؟  لأنك تذكرني به ..أنت لم تشعر بالإزدراء والقهر والظلم من رجل يحمل وجه أبيك ...لم تشعر بتلك المشاعر التي تدفعك إلى الجنون..أتعلم لماذا ؟ علمت الأن ...بالتأكيد لا تعلم شعور أن يسبك ويلعنك بنبرة صوت أبيك ..؟
علمت الأن ... أن يقهرك و يسبك أبيك 
أنا لست من قمعك أنت تعلم ذلك ... وليس لي ذنب في ذلك , أنت من تسببت بذلك
نعم بالفعل أن السبب ...أنت بالتأكيد لست هذا المحقق أنا أعلم ذلك ولكنك تحمل ملامح وجهه ونبرة صوته 
هذا ليس ذنبي .... هكذا هو العالم , هكذا خلقنا ...كلنا لنا نفس الملامح والصفات والعقول والأفكار والهويّات , والتقاليد و كل شئ ... كل شئ , ألست تشبه أقرانك في سنك , وأمك كذلك , وأختك أيضاً وأخيك وكل البشر من حولنا ... كلنا متشابهون , كلنا نمطاً واحداً , نفكر بنفس الطريقة , ونسلك نفس السلوك , ولنا نفس المعتقد والدين؟
لماذا ؟
لا تسأل ..لن تجد إجابة 

----------
هكذا ولدت في هذا العالم الذي تطابق فيه الجميع ليصبح كأنه نسخة واحدة , فمنذ ان تفتح إدراكي على هذا العالم وانا لم أبلغ اصابع اليد الواحدة , لم اميز أبي وأمي من صوتهم ولا وجوههم أو حتى أشكالهم , وعندما أرتدت مدرستي الاولى كان أقراني متطابقين في الشكل و في الهيئة وفي نبرة الصوت , وعندما كبرت قليلاً علمت ان هناك رقماً وإسماً على يدي اليمنى و أعلى رقبتي مطبوعاً منذ ان ولدت , وأيضا بطاقة هوية معلقة في الرقبة ...هكذا أعتدت على هذا العالم المتطابق, فكلنا نمتلك نفس الافكار والتقاليد والمبادئ , لذا اعتدنا على التطابق الذي وهبنا الراحة , هم كانوا يقنعونا بذلك في المدارس والجامعات, ان التطابق نعمة وميزة , لأن الإختلاف يسبب لنا الكثير من المشاكل والكوارث , وكانوا يبرهنون على ذلك بالآخرون ,  ولم يعطونا تعريفاً محدداً للآخرون ,  فقط أخبرونا انهم يقتلون بعضهم البعض , بل أنهم سينقرضون في النهاية بسبب إختلافهم , وقالوا أيضاً أننا تعرضنا لغزو ما تسبب في شذوذ بعضنا في أفكاره أوحتى هيئته , فأصبح مريضاً " بالإختلاف "؟
كان ذلك منذ سنوات طويله , سمعت أن النظام قاوم ذلك و نجح بالفعل في القضاء على معظم المختلفين عن طريق محاكم التفتيش التي كانت تعدم كل من يُتهم بالإختلاف , فكانت تهمة واحدة بالإختلاف من أحدهم كفيلة بالقضاء عليك انت واسرتك , وان كان القضاء على المختلفين من حيث الشكل كان سهلا ولكن كان القضاء على هؤلاء المختلفين من حيث الأفكار كان صعباً ,هكذا خلقنا نرفض الإختلاف بعنف ,لاننا أعتدنا على التطابق في كل  شئ 
منذ أن يولد الطفل الصغير وتولد معه مشاعرٌ تغرس في قلب أمه , تميز طفلها بين العشرات برغم تطابقهم في الشكل , هناك رابطة غيرمرئية ما تربط بين أفراد العائلة الواحدة , فأنت لا تميل إلى احدهن لأنك أعجبت بملامحها ,بل لأن هناك قوة خفية تجذبكما سوياً .
أعتدت تلك الحياة ورتابتها , فكل شئ هنا متطابق يسير على نفس المنوال, فالبنايات هنا ذات نفس الطراز حتى الطرق والمركبات والملابس , هنا لا مجال للإختلاف ولا مجال للتميز, لا مجال للشذوذ عن القاعدة, تلك القاعدة التي خرقتها تلك الليلة وأنا أركض في الشوارع عند منتصف الليل , هنا مقرات علاجية للمختلفين , فهنا أضحى الإختلاف مرض , والمختلفون مرضى ...؟
--------------------------------------------------------------------
أنتهت القصة ولم ينتهي عالمنا من إختلافه وتباينه منذ أن هبط آدم عليه السلام من الجنة لأنه أختلف, وسفك الأخ دم أخيه لأنه أختلف معه , وأختلف كل الأنبياء مع أقوامهم فإما أهتدوا وإما ذهبوا بغير رجعة , وأختلفت الشعوب مع حكامها فقامت الثورات , وأختلفت الدول فقامت الحروب , وأختلف رجل وآمرأة .... فخلفا طفلاً ممزقا ؟
قبل مئات السنين أختلف المسلمون مع ماجاورهم من حضارات مختلفة ومتباينة , فأنصهروا جميعاً في إناء واحد , أنغمست فيه فرشاة لترسم لوحة بديعة على مر العصور , ذاب فيها المسلم وغير المسلم , المسيحي واليهوي , حضارة مازالت تتحاكى بخرافيتها الأجيال حتى الآن,عندما يتتلمذ المختلفون على أيدي بعضهم البعض فيشكلوا لنا أربعة مذاهب كأربعة أعمدة ترفع سقف الإسلام عالياً...إختلافنا رحمة

Wednesday, March 16, 2011

السياسة في مصر


في أحد زياراتي القليلة نسبياً لمعرض القاهرة للكتاب بمدينة نصر , منذ سنتين تقريباً , كنت بمفردي وأثناء إجتيازي لإحدى البوابات العديدة والتي كانت مزدحمة بفعل اجراءات التفتيش الشديدة , بوابات آمنية وتفتيش متعلقات شخصية ونحو ذلك , كان يبدون أن النظام مرعوباً من فكرة تجمع هذا العدد من المواطنين ( يمكننا ان نطلق عليهم مثقفين ) , أجتزت البوابة الآمنية بعد أن أطلقت صفارة , أشرت على إصرها للقطعة المعدنية المثبته بالحزام , ومررت اشار لي احدهم بلباس مدني , وطلب مني ان اعطيه حقيبتي الصغيرة , فتحها , وجد بعض الكتب , قلب فيها جذبه عنوان أحدها , لم يكن كتاباً بالتحديد بل كانت مجلة , " مجلة السياسة الدولية ", نظر اليها كأنه أكتشف إكتشافاً عظيماً " سياسة ؟ " , " انت بتقرا سياسة ؟ " ... " إنت منين ؟" .... أستدركت الأمر قبل أن يتهمني بقلب نظام الحكم .." لا لا سياسة إيه ... دي مجلة بتصدر تبع مؤسسة الأهرام ..الأهرام ؟ حضرتك عارفها ؟ وبعدين أنا اشتريت الأعداد دي من جوه ..  " أعاد الكتب إلى الحقيبة وسمح لي بالذهاب  , الصراحة أكملت تجولي داخل المعرض وأنا أضحك وأحدث نفسي كلما تذكرت هذا الموقف .
هذا هو النظام , كان يعتبر أن السياسة من المبيقات , أو من مبطلات الوطنية , فمنذ ان أراد الله لنا أن نُحكم , لم نرى حياة حزبية سليمة ترقى للدول والأنظمة الديموقراطية الأخرى في العالم , فبعد أن قامت الثورة وحلت الأحزاب , حتى تذكر السادات بعدها بسنوات عديدة ضرورة إيجاد مناخ سياسي صحي , وبالتأكيد وجب وجود الأحزاب , ثلاثة أحزاب فقط , وبعدها رأينا وتابعنا عن كثب مسرحية الأحزاب الكارتونية الهزلية على مر ثلاثون عاماً , وحتى الأن لم يتواجد ذلك المناخ السياسي الصحي القائم على أحزاب أياً كانت توجهاتها , يمثلون توجهات الشعب وينتخب ممثلي الشعب إنتخابات تعبر عنه وتفرز لنا حياة سياسية سليمة .

كانت علاقة السياسة بالمواطن المصري البسيط , تنحصر في متابعته لموجز أنباء يقطع فيلما أو مسلسلاً أو حتى أخبار التاسعة وهي يتناول ثمرة البطيخ في ليلة صيفية ساخنة , أو تنحصر في جريدة معارضة كالدستور أو الأسبوع تسبب له أعراض مختلفة تماماً عن تلك الأعراض التي تسببها له صحف أطلق عليه مجازاً بالقومية , أو تنحصر في حديث عابر مع زملاء في العمل أو مع ركاب آخرون من نفس الوطن محشورون في إحدى وسائل المواصلات( مع اتخاذ الحيطة ) , وبالتأكيد فتلك الأحاديث لا تجد لها متسعاً داخل الأسرة السعيدة المغموسة  في حساب المصروفات والمرتب, غير ذلك فالمواطن متفرج ومحلل وناقد من الدرجة الأولى .
هكذا أقصى نظام سلطوي ومستبد طوال سنوات المواطن بعيداً عن أي مشاركة فعالة في الحياة السياسية , حتى أنه لم يعطه الفرصه أصلاً ليشكل وعياً سياسياً أو اتجاه أياً كان , وبالتأكيد كما أشرت سلفاً أن البيئة الصحية للحياة السياسية لم تكن موجوده , بل بالعكس كانت بيئة مناسبة جداً لتربية الفطريات والميكروبات والفيروسات بل والأورام في حالات متقدمة حتى باتت الحالة مستعطية وتستوجب البتر , فقد حوّل النظام المواطن لجرذ يجري في عجلة تدور إلى مالانهاية , فلا العجلة تتوقف والمواطن يدور داخلها ولا الجرذ  ..أقصد المواطن يتوقف عن الجري والهرولة خشية السقوط والموت .

المـــــــواطــــــــن فــــــــي عيــــــــــــــــن النظــــــــــــــام  

ربما كان النظام يصنف المواطنين على هذا الأساس : (1) مواطن ( في حاله ) لا ينتمي الى اي احزاب او تيارات سياسية أو جماعات دينية , فقط يبحث عن قوت يومه ورزقه ويعاني من نقص حاد في الوعي السياسي نتيجه لعدم توفر رؤية واضحة  ولا ادراك ولا احساس بمسئوليته عن هذا الوطن وبالتالي عدم رغبته في التغيير .. يمكن ان يكون هذا المواطن يمتلك رؤية وادراك للموقف ولكنه فقد احساسه بدوره او فعاليته , فهُم افقدوه دوره السياسي , أفقدوه احساسه بصوته واهميته في صنع القرار لذا من الطبيعي جدا ان نجد هذه المعدلات الهزيلة في المشاركة في الانتخابات , حتى لو شارك فهو يشارك بمقابل مادي فوري وملموس , طبعا هناك عدد قليل جداً من يقرر من نوعية المواطن رقم (1) أن يشارك بإيجابية في الانتخابات ( أبسط وأسهل أنواع المشاركات السياسية ) ولكن للأسف المواطن رقم (1) يمثل الأغلبية العظمى من مجتمعنا .

مواطن رقم (2) المواطن الذي قرر ان يمارس الحياة السياسية ممارسة آمنة وبالتأكيد فقد استخدم كافة الوسائل الآمنة التي لا تجعله ينجب ...أقصد لا تجعله ذو فعالية حقيقية , فهو يمارس ولكن لايمارس , فهو عضو في حزب الحاكم , نعم أستخرج كارنيها يمكن أن يفيده في أي مكان صحرا ان كان او بستان , متفاخراً وسط  زملاؤه السذج بأنه حزب وطني , مشهراً في وجه من يعترضه الكارنيه كسيف بلاستيكي , وهكذا أصبح مدرج عندنا خمسة ملايين في الكشوف على أنهم حزب حاكم , هذا النوع من المواطنين يفتقد إلى الرؤية الواضحة للمشهد السياسي ولا يدركه أصلاً إدراكاً جيداً , بالإضافة إلى انه يعاني من احساس مزيف بالمسئولية ولذا لا يشعر بأي دافع للتغيير , أقصد هنا أن معظم من انضم إلى هذا الحزب أو أدرج اسمه في قوائمة ليس بدافع المشاركة السياسية ولكن بدوافع أخرى وان كنت اشك أن هناك أعداد قليلة جداً كانت تنضم إليه بدافع إيجابي وحقيقي للمشاركة .


مواطن رقم (3) مواطن (جماعات) ويمكنك أن تميزه بسهولة ويسر بلحيته الطويلة وثوبه القصير أما الأنثى فهي منتقبة , وهذا المواطن لايمارس اي شكل من اشكال النشاط السياسي وينوء بعيداً عنها , فلا هو ينضم الى حزب ولا جماعة سياسية , بل يكتفي ببعض الأنشطة الدعوية المحدودة ومرتبط بالمساجد (بشكل مبالغ فيه من وجهة نظر النظام طبعاً) ويمكننا أن ندرج إلى هذا النوع من المواطن رقم (3)الباقون على قيد الحياة والخارجون عن الجماعات الإسلامية وجماعات التكفير والهجرة , بالنسبة للرؤية والإدراك للمشهد العام فهو ضعيف جداً وبالتالي فهو لايشعر بمسئولية واضحة في هذا المجال بالذات ولا يمتلك الدافع للتغيير , بالتأكيد فهو ذو توجهات ودوافع في منطقة مختلفة و بعيدة كل البعد عن الحياة السياسية  .

مواطن رقم (4) المواطن المعارض , هذا المواطن الصبور الحمول وكل شئ على وزن " فعول "  وهو يمارس الحياة السياسية فقط  بدون اتخاذ اي حيطة او حذر , لذا فهو عرضه في اي وقت لأي مفاجأة من مفاجأت النظام , ..... ومرتبط بصناديق الإقتراع أحياناً , ويمكننا أن نضيف إلى هذا المواطن صفة ناصري , ليبرالي, إخواني , قومي , يساري , إشتراكي, وهذا هو المواطن الوحيد والمختلف عن الثلاثة السابقون فهو يمتلك رؤية واضحة - إدراك لما حوله - إحساس بالمسئولية - رغبة في التغيير, وإن كانت تختلف من جماعة إلى أخرى .
توضيح بسيط يجب التنوية إليه وهو أن المواطن المعارض المضاف إليه صفة ( إخواني - أي يتبع جماعة الإخوان المسلمين ) يمكننا أن نضيف أنه يمارس الحياة الدعوية بجانب السياسية , لذا فساحات أنشطته تشمل أيضاً المساجد بجانب صناديق الإقتراع.

ملحوظة رقم (1) المواطن رقم (1) و(2) و(4) يمكننا أن نجد المسلم والمسيحي مندرجاً تحت أي من تلك الأنواع الثلاثة , فيما ينحصر المواطن رقم (3) في نوع واحد فقط وهو المسلم .
ملحوظة رقم (2) يندرج عدد محدود (في تزايد) من المواطنين الذين يعانون من التخمة جراء أنواع متعددة من الفساد تحت بند المواطن رقم (2) وبالتأكيد فهو إما طالب سلطة أو مال  أو الله أعلم .

يمكننا أن نصف الوعي السياسي للشعب المصري بالمتدني , بالتأكيد الأمر يختلف تدريجيا مع الوقت بعد ثورة يناير , ففي اعتقادي مازال وعينا السياسي يتشكل ويتكون في تلك الأيام مع وجود عدد كبير جداً من الشعب مازال يفتقد ذلك الوعي.
لم يعي النظام أبداً ان مصر لم يصل تعداد سكانها إلى تلك الدرجة , ولم يعي أيضاً أن نسبة المتعلمين علاقتها كانت علاقة طردية مع تعداد السكان , ومؤكد أن نسبة الوعي السياسي تزداد وسط المتعلمين , أزداد الوعي السياسي بطريقة ملحوظة نتيجة الإعلام الخاص بالتأكيد من قنوات خاصة وصحف معارضة بالإضافة إلى مواقع ( Twitter & Facebook ) والتي أطلق عليها مواقع إجتماعية ( Social) برغم أنها كانت في مصر على عكس ذلك حيث ظهرت بصبغة سياسية , كما ساهمت التكنولوجيا التي حولت المواطن إلى راصد ومسجل لكل حدث , فأصبح المواطن  يحمل كاميرا يصور بها الحدث لينشره على الشبكة العنكبوتية ليراها العالم خلال لحظات.

تحولات بــــعد الثـــــورة 
التحول الأبرز الذي أود أن أشير إليه هو التحول الجذري للمواطن رقم (3) ممن يُطلق عليهم سلفيين , لأول مرة آراهم يتحدثون عن الدستور والسياسة , هل هذا تطوراً في فكر جماعة كانت تنأى بنفسها عن السياسة ؟

نسبة من فئة المواطن رقم(1) ---تـــــحـــولـــــت ---إلى مواطن رقم (4)..(عقبال الباقي)

تحول العديد من المواطنين( الشباب) من المربع رقم واحد إلى المربع رقم أربعة , ليشارك بفاعلية نتيجة إلى تراكمات من مساوئ وكوارث للنظام السابق أظهرتها وسائل الإعلام والإنترنت جلية , فهاهو عدد لا بئس به من المواطن رقم (1) أصبح يمتلك الرؤية والإدراك كما شعر أنه مسئول عن الوطن بعكس أسلافه وبالفعل أرد التغيير وهو ما ترجم في ثورة , فا لأول مرة نتحدث عن مواد دستور كانت بعيد كل البعد عن  وعي وادراك الشباب والناس, ونناقش مواداً بعينها , ونتحدث عن القائمة النسبية في انتخابات البرلمان و وزراء تكنوقراط ونظام برلماني ونظام رئاسي , ولكن مازال أيضاً هناك غالبية عظمى من الشعب لا تعلم شيئاً , ومازالت مغموسة في مستنقع الجهل السياسي ... بالإضافة إلى أننا لم ننضج بعد سياسياً ومازال وعينا يتكون ويتشكل و بالتأكيد يتطلب ذلك جهداً من الجميع .

لتتحول السياسة من كونها مبيقات و مبطلات للوطنية ..... لتصبح ركناً أساسياً للوطنية

Friday, March 11, 2011

يمامة



كان لي صديق أعتبره واحداً من الأصدقاء المُقربين , صهرتنا السنين معاً لنشكل مزيجاً متجانساً برغم إختلافنا , أعرفه منذ الكثير, نعم منذ الكثير ,سنين تكفي لأعرف تقريباً كل تفاصيل حياته ,اشاركه أفراحه و أحياناً همومه التي يبوح بها , فرقتنا الحياة ورغم ذلك بقينا سوياً , تقاربت عائلتينا كرد فعل طبيعياً , كان له أخاً كان يصغرني بحوال أربعة سنوات.
كان الأخ الأصغر المدلل دائماً أخر العنقود كما يطلقون عليه , كان لطيفاً ومرحاً ومحبوباً من الجميع , أتذكر ألعاب الطفولة في الشارع والعراكات الصبيانية , يوم ان كانت ضحكاتنا تعلو لتلمس السحب , كنا نضحك حتى تكاد تتوقف قلوبنا من كثرة الضحك, كانت أمي تسمينا عصابة , كنا نقضي الوقت سوياً أناوأختي الصغرى وصديقي وأخيه الأصغر أكثر مما نقضيه مع عائلتينا , في مدخل بيت الجدة نجتمع وكل منا يخرج الأشياء التي أتفقنا على أن يحضرها منا سلفاً , فهذه أعواد خشبية طويلة وهذه قطع "مشمع " وأكياس وهذه بكرة خيوط وهذا صمغ و هذه أوراق ملونة , كل هذا لنصنع طائرة ورقية .
كان حُلماً بعيد المنال حينها , نعم أن نصنع طائرة ورقية وتطير عالياً لتلمس السحاب كما تفعل ضحكاتنا , أنهمكنا نحن الأربعة ولو كانت أختي الصغرى ليست كبيرة كفاية لتدرك تلك الأحلام ولكنها كانت تشاركنا ذلك لم تكن قد تجاوزت السابعة , كانت تضحك لأننا كنا نضحك , فقط هكذا , فالنعد لحُلم الطائرة الورقية , ربما لم نكن نحكم ربط الأعواد جيداً من الوسط لذا لم تنجح , أم أن الذيل ليس طويلاً كفاية , كنا أصغر من أن نتقن صنع طائرة ملونة كبيرة , سئمنا من تلك الطائرات الصغيرة التي لا تقوى على مواجهة الريح ولاترتفع عالياً . في المحاولة الثالثة أو الرابعة على ما أتذكر نجحت , أتذكر تلك البسمة التي أرتسمت على وجه أختي وهي تقفز عالياً والطائرة تعلو وتعلو وتعلو وتعلو وتعلو , وتعلو ضحاكتنا نحن الأربعة و وترتفع " يمامه " هكذا أسميناها , أختارته أختي , كانت تحب اليمام وحلمت أن تقتني واحدة , كانت تحبها لأن جدتي حكت لها كيف أن اليمامة ساعدت النبي في الغار , لذا أحببنا نحن أيضاً " يمامة "أتفقنا أن تنام بين أحضان كل منا ليلة , كنت أساعد أختي عندما كانت تمسك بالخيط حتى لا ينفلت منها لجذب الرياح وحتى لا تطير نعم هكذا كنت أظن أني لو تركتها ربما ستطير مع " يمامة " .
كانت في البداية أياماً صعبة علينا, كنت أنتظر تلك الصورة المنطبعة في ذهني له , يوم أن جاء صديقي من أول زيارة له , أخرج هاتفه لأشاهد صورته , تغير تماماً أو ليس تماماً , فقد الكثير من وزنه بجانب شعرة القصير جداً , أشعر أنه أصبح أطول , أصبح لون بشرته داكناً إلى حد ما , متى أول أجازه له ؟ سألت صديقي , أجاب بعد شهر , وقت طويل ولكن هو أختار ذلك الطريق فليتحمل ويدفع الثمن .دقت أختي على الباب بعنف لأستيقظ , فتحت ووجدتها تلهث وتحاول تكوين جملة , لقد جاء !!.... من؟ وكأني أسأل السؤال وأستحضر الإجابة في نفس الوقت " ديدو " ,أومأت برأسها وألمح في عينها دمعة تحاول سحبها بسرعة , هرولت بسرعة وأنا أقفز على درجات السلم , وأفتح البوابة , وأجري إلى وسط الشارع لأحتضن " ضياء" , أحتضنته بدون أن أدقق في وجهه أو فيما يرتدي ,كان صديقي يقف بجواره " ديدو " لا هذا الأسم لا يليق أبداً بضابط شرطة , كفارس يرتدي بذته البيضاء النقية , دققت في وجهه أصبح رجلاً , كأني أكتشفت رجولته فجأة بدون مقدمات , برزت عظام وجهه , أصبح في طولي لفقده بعض وزنه , كان يبدو قصيراً فيما مضى ,لمحت أختي تقف في الشرفة , نظرت ورأيت نفس بسمة يوم أن أرتفعت "يمامة" و" ضياء" هو الأخر نظر ,أشار لها وأتسعت ضحكته بعرض وجهه تقريباً , ولمحت حباً ينبت ولم أشأ أن أتدخل .هاهي العصابة أجتمعت مرة أخرى " وتعالت الضحكات , أطلقتها أمي كمزحة وهي تقدم العصير للضيوف صديقي وديدو ووالديهوأضافت أم صديقي " كبرتم و شيبتونا " أتتذكرين يا "هند" وأنتي لم تتجاوزي الخامسة عندما كنت تنادين على ضياء ب "ديدو " هاهو ضياء سيصبح ضابطاً , أجابت أمي "كان صعباً عليها كثيراً لفظ ضياء وقتها , كان ديدو أسهل , " والله ومازالت تناديه ديدو بل نناديه جميعاً " وتعالت الضحكات ووجه هند قد أزدادت حمرته وهي مرتبكه تهرب من النظرات .أخرج سيجارة من علبة كانت متخفية في جيب سترته أثناء ما كنت أقود وكلينا متوجهين إلى وسط المدينة , أسترقت نظرة إليه تاركاً الطريق , ووجهي يعلوه نصف بسمة وحاجب مقتضب جراء إستنكار ومفاجأة , " منذ متى ؟" لم يجب , لا حظت قليلاً أنه تغير , حاولت أن أبدأ حواراً معه لأحاول أن أفهم , " ها كيف الحياة هناك ؟ هل أنت سعيد ؟ " أجاب بلا إكتراث وهو ينفث دخانه من النافذة التي أجبرت على أن أفتحها " نعم , قليلاً " , حاولت أن أستفهم منه عن وجود مشكلة ما , حاولت أن أسلك طريقاً ربما تكمن فيه المشكله , وحاولت أن أقنعه" تبقت سنة فقط على تخرجك من كلية الشرطة ", وأنه يجب أن يصبر قليلاً , غداً سيتخرج ويُعيّن ويصبح ضابطاً . لكن يبدو أن تلك ليست هي المشكلة , تركته قليلاً ربما يتكلم من تلقاء نفسه .أرتجلنا ومشينا وسط زحام وسط المدينة , لنصل إلى أحد المتاجر التي أقنعني أنها تبيع ملابس جيدة أبتاع منها في أحد المرات .
كنت أسير معه تاركاً له الشوارع التي نسلكها لمعرفته مكان المتجر , وجدته متوجهاً نحو شارع ضيق يقف بعرضه صفاً من الجنود الذين يسدوه , لم أشأ أن أعلم لماذا هو مسدود, ولكني وجدته متوجهاً مباشرة إلي ذلك الشارع بالذات , جذبته من يده وسألته إلى أين هو ذاهب , يبدو أن هناك مشكلة ما في هذا الشارع , وأشرت إلى الشارع المجاور والموازي له , أعتقد أن هذا الشارع سيوصلنا إلى نفس الإتجاه , أجاب " لا لا سنمر من هنا تعال " , لم أفهم ووجدته أخذ بيدي مخترقاً صف الجنود , وقام الجندي بدوره بالوقوف أمامه قائلاً " ممنوع يا أستاذ " غضب ديدو أوضياء لا يهم , وحاول دفعه ولكن الجندي كان أسرع فدفعه هو , لم تكن الدفعة قوية لدرجة جعلت ضياء ينعته بالجنون ويلطمه على وجهه وينهال عليه ضرباً , كنت واقفاً مذهولاً لا أتحرك ,و كان الجندي أيضاً مذهولاً وسقط على الأرض جاحظاً وناظراً إليه , فتجمع الجنود عليه وكادوا أن يفتكوا به , لم ...لم أعلم ماذا أفعل حينها هل أضرب صديقي الأرعن أم أضرب الجنود , ولكن أستدرك هو الأمر صارخاً فيهم " الا تعلمون من أنا ؟ " " أين الضابط المسئول هنا ؟ " جاء الضابط وأخرج ضياء " الكارنيه " ضحك ضحكة حاول أن يكتمها " فعلت هذا وأنت طالب فماذا تفعل وأنت ضابط " .

لم أشأ أبداً أن أتحدث أو أبدأ حواراً لأنني الأن فهمت , كنت أقود السيارة في طريق العودة والصمت يقودني في طريق الوجوم وهو ينفث دخان سيجارته الذي يكون غمامة رعدية فوق رأسي تضرب برعدها بعنف .هرولت لأفرغ ماتبقى في جوفي , ولم أتبين السبب هل كان دخان السجائر أم سبب أخر , سحبت قدمي إلى غرفتي , وأغلقت بابي لاحظت صغيرتي " هكذا أدعوها " حالتي تلك فتسللت في حنو إلى قلبي , أحتضنتها حضناً طويلاً ونظرت في عينيها وأنا أرى حزناً يشبه حزناً يوم علقت " يمامه " في سلك عمود الإنارة .
------------------  
كُتبت قبل الثورة بأسبوعين بعد أن أستلهمتها من موقف حقيقي