Thursday, May 02, 2013

أنا أسف يا هند



أطرق باب الفصل ..أدفع الباب في لهفة , تهدأ جلبة التلاميذ بالتدريج حينما يلمحونني أدلف إلى الفصل , يعم الصمت ويقف الجميع في ترقب ,أبحث عن وجوه التلاميذ عن وجه مألوف .

في "الفسحة " كانت هند تأتي لي في غرفة المدرسين تجلس بجواري , تقاسمني شطائرها وتريني أخر رسم رسمته في كراستها .. تراقب رد فعلي ... إذا ابتسمت , ابتَسمّت , وإذا لم  أبتسم تضم حاجبيها وتتظاهر بالغضب
نتقاسم الحكايات , تخبرني عن كائناتها الأسطورية ودميتها وابن الجيران الذي يضايقها دوماً ويهشم ألعابها
لم أرى ملاكاً يوماً .. لأحدد كيف يبدو , لا أستطيع أن أقول أن هند تشبه الملائكة , ولكن لها عينان توحيان أنها جاءت من السماء تواً , أنف دقيق وغمازتان تظهران حينما توشك الضحكة على البزوغ , لتظهر أسنانها المُنمنمة , تشاكسها خصلات شعرها التي تسقط بين الحين والآخر فترفعها بعيداً عن جبهتها الصغيرة ...

عندي لكِ هدية "  لمعت عيناها ,و التقطتها سريعاً ورفعت حاجبيها وقالت "دي أنا!" , الفرحة في عينيّ هند لها لمعة مختلفة , لها شكل خاص يختلف عن كل أنواع الفرحة , يومها وبعفويتها المعتادة ,طبعت قبلة على خدي وقالت " لو علمتني إزاي أرسم كده ..هارسمك ".

بحثت بين التلاميذ , بلا جدوى , سألت التلاميذ "أين هند؟ " علت أصوات عدة تلاميذ وتداخلت سريعاً , فلم أتبين ما يقولون ’ فطرقت بقوة على المنضدة ليهدأو لأجد إجابة , عاد الصمت , فأشرت إلى من تجلس بجوارها "أين هند ؟"
فردت البنت " غائبة منذ يومين "

أنظري , نرسم العين هكذا .. ثبتي القلم جيداً , نعم هكذا , لا تجعلي القلم يهتز  , نعم , نعم , رائع
بعد أن تكملي قوساً , ارسمي في مقابله قوساً أخر , لا بأس , لا بأس , لا تتوقفي , رائع جداً
ارسمي داخل هذان القوسان دائرة .  جميل يا هند أنت رسامة موهوبة , فابتسمت .

عين ماما جميلة , لكن لما بتكون زعلانه مني  "بتبرق كده "
تتقمص هند وجه أمها حينما تغضب لتتسع عيناها فأكتم ضحكة , وأسألها "لماذا تغضب "ماما"؟
"أحياناً بتكلم مع جي جي , ولما ماما بتشوفني ..  بتزعق " انتي مجنونة عشان تكلمي عروسة مش بتعرف تسمع ولا تتكلم .. المجانين بس هما اللي بيعملوا كده "
أنا أحب ماما ولكن لا أحبها وهي غاضبة من "جي جي "  ليه مش بتحبها هي مش بضرها .

من الصعب أحياناً أن نقتلع الذكريات , أن نجتثها ببساطة كنبتة تضرب بجذورها فينا ,أن نستيقظ في الصباح , بدون ذكريات , فلا نتعرف على وجوهنا في المرايا .
تذوب حلاوة الذكريات الجميلة وتترك في الفم مرارة يدوم تأثيرها لبعض الوقت .
هنا مقعد "هند" كان يحتك كل يوم بفستانها الوردي وتلك المنضدة كانت بالفعل سعيدة باحتضان كفيّها الصغيرين , هذا قلمها الرصاص , كم وضعته بين أناملها الصغيرة , لتخط به كلمات مرتعشة أو رسم به زهور وفراشات وشمس تبتسم. 

تعال هنا , قف أمام زملاؤك , حافظ على النظام حتى أعود "فهمت " أومأ برأسه , وخرجت أنا ورأسي تنهشه كثرة الاحتمالات والشكوك , وبينما أنا أسير بدون وجهه مُحددة إذ قابلني أحد الزملاء , تلقفته سريعاً , قرأني على الفور وقرأ سؤالي " أين هند ؟" أتعلم شيئاً ؟
جذبني من ذراعي , ودخلنا فصلاً فارغاً , أغلق الباب بإحكام ,أستند بجزعة على أحد الأدراج , سحب سيجارة وأشعلها , سحب نفساً عميقاً ونفثه وكأنه يزيح ثقلاً عن صدره , "ماذا هناك ؟" لماذا صمّتَ الأن ؟ أخبرني
سأخبرك ولكن تماسك .

مررت بأطراف أناملي على ألوان "رسمتها", خطوطها البسيطة المتعرجة , كان ملمسها يتدرج بين الناعم والخشن , ابتسامة تشبه ابتسامتي تضيء منتصف الوجه ’ شعرت برجفة وأختل توازني فارتكزت على أحد الكراسي فأسرع زميلي يتلقفني , فأشرت له بيدي لإبعاده .

" أنا رسمتك " ... وابتسامة بعرض وجهها , أعطتني إياها , ورقة مطوية , ولم أكد أخذها حتى جرت هاربة حتى لا ترى رد فعلي , فتحتها لأجد خطوط تنضب بالطفولة والبراءة , أنا و هي و دُميتها .. نحن الثلاثة فقط

انحدرت دمعة رغماً عني لتبلل وجهها الصغير فتختلط الألوان وتمحو ابتسامتها .


كيف حدث هذا ؟ كيف ؟ كيف امتدت يده لتسحق كل شئ جميل فيها , بماذا شعرت حينها المسكينة وهي مكتوفة الأيدي , عاجزة عن كف الأذى , ظبية صغيرة لم تمكنها أرجلها الضعيفة من الهروب من براثن حيوان ضاري , غرس مخالبه في رقبتها الصغيرة بمنتهى القسوة , بدون تفكير لحظة في العواقب
أصرخت ؟ أم كتمت صرختها ؟ امتلأت عيناها بالدموع وأكتسح مزيجاً من الخوف والحيرة قلبها الصغير لأول مرة  , هي لا تدرك أن بقعاً سوداء مؤلمة قد طبعت داخلها إلى الأبد , لن يستطيع الوقت محوها , لن تنساها , ستبقى داخلها الرعشة الأولى لا تفارقها  , أنفاسه الحارة الكريهة , ملمس أصابعه الغليظة , نظراته الحيوانية التي تأكل جسدها الصغير الذي لم يعرف الأنوثة .
لن تنسى عجزها واستسلامها .

أجهشت بالبكاء وشعرت أنه بكاء للأبد , لن ينتهي , سقطت في دوائر لا تنتهي  , أخرجتني منها فجأة يدُ زميلي تربت على كتفي . ثم قال : نسيت أن أخبرك أنها بالأسفل .

الأعمار لا تقاس بالشهور والسنوات  , الأعمار تُقاسُ بكم الألم وفداحة التجربة , طالما أنت لم تتألم ولم تجرب فأنت لم تولد , نحن نولد بالألم ونعيش ونموت بالألم وبينهما ومضات من الفرحة تخفف منه قليلاً , تخدرنا وتبقينا أحياء لحين ألم جديد .
حينما نولد نصرخ من الألم  ,  ألم اجتياح هواء الأرض المُلوث لرئتنا الصغيرة.

لمحتها , تجلس مع والديها في غرفة المدير , بدت مختلفة , ملامحها تكسوها الحزن , غرقت ابتسامتها , خفتت , وجهها وجه طفلة في الأربعين , كنت أود أن أتقدم ,أن أفتح الباب ,أختطفها وأودعها صدري ,أبقيها واحتفظ بها لي أنا وحدي , أحتفظ ببراءتها المتبقية .
أضمها بشدة , ربما عادت هند , ربما عادت هند .
أرغب أن أهمس في أذنها " أنا أسف يا هند , لم أحافظ على ابتسامتك في "الرسمة ", دموعي أذابت ابتسامتك .

Thursday, January 31, 2013

كغريبيّن



أليس لديك أصدقاء ؟
 
نظر لها .. كأنه أستغرب السؤال , كانت نظرته مزيجاً من الدهشة الممزوجة بالأسى الذي كان يحاول جاهداً أن يمحوه , وحينما ألتفتت له بدورها وهي ترتشف من كوب القهوة الساخن الذي تحتمي فيه , أشاح بنظره كأنه يخفي شيئاً , محملقاً للبحر كأنه يستجديه أن يُلهمه . شرع في الحديث حتى لا تلاحظ شيئاً يموج ويتخبط داخله , بدأ حديثه بنصف إبتسامة
لا أحد ليس لديه أصدقاء .. حتى لو كان هذا الصديق  نبتة قرنفل صغيره يسقيها كل يوم في الصباح , أو حتى قط مُشرد يتمسح بقدميك وأنتِ في إنتظار الحافلة .. لا أحد
صادقت مرة مقعداً في حديقة الأزهر فترة من الزمن , بعدها هجرني ولم يعد يستمع لي , ربما فضل أحاديث العشاق أكثر مني , لا أعلم ! 
ضحكت لثواني
أخرست بعدها الضحكة وهي تخفي أسنانها , حتى لا تلفت أنظار المارة رغم أن عددهم كان شحيحاً 
"مقعد في حديقة الأزهر و قرنفل وقطة " 
"قط لو سمحت " 
يالك من بائس
وكأن العبارة صدمته .. على حقيقة لم يشاء أن يراها جليه 
ألم تحدثين دميتك وأنت صغيرة وتحكين لها حكاية قبل النوم , وتشتكين  لها من مضايقات أخيك المتكررة

أنا أقصد البشر

البشر مُتعبون
من حوالي يومين .. رغبت بشدة ألا أتوجه إلى العمل وبعد أن وقفت لمدة دقيقة حاملاً حقيبتي أمام عربة بها ركاب يحملقون بذلك الكائن المتردد , قررت أن أحقق تلك الرغبة بشدة لذا سرت وتركت لقدماي القرار , سرت في الشوارع النصف ممتلئة قليلاً ثم قمت بالإتصال بأحدهم ... ماذا تفعل الأن ياصديقي ؟ لاشئ أنا في المنزل ... سألته سؤالاً مستتراً يخفي رغبة ما في زيارته و كان رده مستتراً هو الأخر يخفي عدم رغبته  .. لا أتذكر تحديداً ماذا فعلت فيما بعد , ولكني أعتدت منذ فترة طويلة على ألا أجد مالا أريد .. لذا قررت ألا أريد أو أرغب حتى لا أشعر بمتلازمة الفقد وخيبة الأمل المصاحبة لكل فشل في تحقيق رغبة ...وهذا سيء جداً
وأكتشفت بالتجربة أن ليس هناك أجمل من المواعيد والمقابلات والأحاديث و كل شيء .. كل شئ تلقائي و لم يُعد له مُسبقاً , كل شئ تلقائي جميل


قال لي صديق مرة أنك إذا أردت أن تعلم تحديداً مدى صداقتك بإنسان .. فأنظر إلى لقاءكما .. أنصت إلى الفراغ والصمت الذي يجثو بثقل جثته فتملئ أنفاسه الكريهه ما بينكما .
أصبحت تلك اللحظات نادرة التي تتوق فيها للقاء مُنتظر مع أحد الأصدقاء .. تلك اللقاءات الذي تنساب فيها الأحاديث التي لا تنتهي بسهولة, ولاتشعر حتى بمرور الوقت سريعاً , أما إذا ساد الصمت وباءت محاولات إستجلاب الأحاديث من العدم ..فلا تأمل كثيراً
وتظل تدور في دوائر ... " ما أخبارك الأن .؟  .. أخبار العمل ؟ ... ممممم
هل هناك جديد ؟ أخبار العائلة ؟  , نفس الأسئلة تتكرر و نفس الإجابات على الأسئلة ذاتها , كأننا  نمثل أدوار كُتبت لنا بدقة .. نمثلها بإحتراف لا مثيل له

يبدو أنك تُبطن ولا تظهر الكثير, صمتت كثيراً بعد أن تنهدت هل أدعوك على كوب قهوة أخر
؟

أبتسم 
وأندهشت كونه مازال قادراً على الإبتسام
كوب القهوة السابق كان مُقابل تغييري لإطار سيارتك في ساعة متأخرة منذ قليل .. هذا الكوب مُقابل ماذا ؟

رفعت حاجبيها .. وفتحت فاها الصغير على أخره , وهزت رأسها هزاً طفيفاً يميناً ويساراً  .. متعجبة من قوله هذا
 " هل تعتبر كل شئ في هذا العالم بمقابل؟" 
همت بتركه والتوجه لباب سياراتها .. فأستعشر هو مابدى منه , فلحق بها 
وسارع  " أدعوك أنا هذه المرة على كوب قهوة
تسمرت في مكانها ... وقد أطالت النظر إليه وهي تضغط على شفتيها
أبتسم .. وكأنه أدرك أن إبتسامته غدت نقطة ضعفها .. " أنا لا أحسن الكلام أحياناً

فأستسلمت له وعادت لتستند على سور الكورنيش , وهم هو بعبور الطريق فقطعت سيره بقولها
مقابل ماذا .. ؟  كوب القهوة ؟" " 
فضحك .. ضحكة مُرهَقه .. مقابل أنك تراجعتي عن الذهاب , وأستمر بعدها ليقطع الطريق
طوى الطريق سريعاً عائداً بكوبي قهوة ساخنيّن 
ملأت رئتيها بشذا القهوة .. "أتعلم  ذلك  الكوب الورقي الملون كأنه يقتطع جزءاً من القهوة .. ينتقص منها , شرب القهوة في الفناجين له مذاق أخر "
"أظن أن درويش ذكر ذلك
تحدث درويش كثيراً عنها أتتذكرين "

القهوة ‏هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح
تلقفت العبارة و أكملتها "
والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار, وأظن أن القهوة نجحت  في ذلك " قالت تلك العبارة ممزوجه بإبتسامة ماكرة
فهم المغزى .." أنا بئر عميق لا تحاولين  
لماذا تُشعرني في حديثك أنك لست من البشر ؟
ولماذا ليس العكس .. هم من تخلوا عن بشريتهم ؟  بشر من حيث الشكل فقط ؟
تتفلسف كثيراً أنت 
أنا أبسط مما تتخيلين , ربما كانت أحد أمنياتي أن أستيقظ في الصباح لأجد جورباً مناسباً , أن أمد يدي في جيبي لأجد مالاً يكفي لشراء كتاب أو كتابين بشرط أن أستطيع أن أكمل بقية الشهر بدون الإستدانة , أن يبتسم لي طفل في بداية يوم لأتفاءل به 
ألا أضطر لحلاقة ذقني مرة كل أسبوع , ألا أجبر على الإبتسام , ألا أبرر خطئي
أن تعود لي الفتاة التي أحببتها .. قال الأمنية الأخيرة وقصد أن يلاحظ رد فعلها 





بدى صوت نفسها مسموعاً

 أوشكت القهوة الثانية على الإنتهاء ولست مستعدة لكوب أخر حتى لا تقضي على ساعات نوم أخيرة أتمناها 
أتعلم شيئاً , نحن مُتشابهان إلى حد كبير و لكنه ذلك التشابه الذي يبقينا غرباء , أنا أشبهك لدرجه تخيفني أن أسبر أغوارك و أقتحم شوارعك الخلفية المظلمة لأجد نفس الصندوق"الأسود" .
هل  أدفنه داخلي حتى أجده في مكان آخر؟ نفس المخاوف والأفكار وكل شئ ..مجرد الإقتراب منك يلقيني في دوامات أحاول جاهدة في الإبتعاد عنها ,  نظرت له و بوادر رقرقة في العينيّن و نصف إبتسامة على وجهها  " مفاجأة أنا إنسان ! أحتاج أحياناً لإختلاق الأعذار والبكاء على صدر يسعني أنا فقط لاتشاركني فيه هموم العالم   , أتعلم عليّ الذهاب شكراً على تغيير الإطار و القهوة الثانية ولاتنسى أن تلقي الأكواب في أقرب سلة مُهملات


 .......................
مصدر الصورة

Friday, January 25, 2013

القناص


       تأليف : الكاتب الإيرلندي ليام أوفلاهيرتي
ترجمة : محمد السيد الدرواني 

تلاشى غسقُ حُزيران الطويل غارقاً في الليل ,ودبلن ترقد محاطة بالظلام باستثناء خيط من ضوء القمر المُنبثق من بين السُحب القطنية , مُلقياً بضوء شاحب على الشوارع و صفحة مياه نهر" ليفي" المُعتمة كأنها توشك على الفجر , بينما تدوي البنادق الثقيلة حول مبني "الفوركورتس " المُحاصر , كانت البنادق والمدافع الرشاشة تنتهك سكون الليل  بشكل متقطع هنا وهناك خلال المدينة  , كما لو كانت كلاباً تنبح في مزارع مُنعزلة
.
 فيما كان الجمهوريون والوطنيون الأحرار يضرمون نار الحرب الأهلية , كان هناك على سطح مبنى بالقرب من جسر "أوكونيل" يرقد قناص جمهوري مترصداً . بجواره بندقيته ويتدلى مًُنظار من فوق كتفيه . وجهه وجه طالب ,ضئيل و مُتقشف , ولكن لعينيه بريق عدائي لشخص متعصب
.
كانت عيناه عميقتين و يضجان بالأفكار , عيّنا الرجل الذي أعتاد على مراقبة الموت  .كان يلتهم شطيرة بنهم , لم يأكل شيئاً منذ الصباح ,حيث منعه اضطرابه عن الأكل ¸وبعد أن أتى على الشطيرة أخرج من جيبه قارورة ويسكي أرتشف منها رشفة ثم أعادها مرة أخرى . توقف لبرهة مُفكراً هل يخاطر بالتدخين , هذا جد خطير . فشعلة السيجارة يمكن أن تُرى في الظلام  والأعداء متربصون

 قرر أن يخاطر واضعاً السيجارة بين شفتيه , أشعل عود ثقاب وسحب نفساً على عجل وأخمد شعلة الثقاب و في لمح البصر انطلقت رصاصة في اتجاه حاجز السطح , فسحب نفساً أخيراً من سيجارته , متمتماً بلعنات وسباب ثم زحف بعيداً ناحية اليسار . وما أن رفع نفسه بحذر ليسترق النظر من خلال الدَرَبْزين ظهرت ومضة تبعتها رصاصة شقت طريقها فوق رأسه , فارتمى على الفور , لقد رأى بالفعل الومضة قادمة من الاتجاه الآخر للشارع

دفع نفسه متدحرجاً فوق سطح المبنى ليصل إلى المدخنة القابعة في مؤخرة المبنى , وعلى مهل سحب نَفْسَه خلفها حتى تكون عيناه في نفس مستوى الحاجز  , لكنه لا يرى سوى منظر عام معتم لأعلى المبنى المقابل مقابل زرقة السماء , إذن عدوه يتخفى تحت ستار الظلام

في تلك اللحظة عبرت سيارة مدرعة الجسر وتقدمت ببطأ مخترقة الشارع و توقفت في الناحية المقابلة على بعد خمسين ياردة , مكّنت القنَّاص  من سماع حشرجة الموتور المكتومة التي لم تغطي على دقات قلبه المتسارعة,إنها سيارة تابعة للعدو , أراد أن يضغط الزناد ويطلق النار ولكنه علم أنه لا جدوى من ذلك , فرصاصته لن تخترق جلد الوحش الفولاذي رمادي اللون ومن زاوية شارع جانبي أطلت امرأة عجوز ترتدي شالاً رثاً ومهترئاً , وبدأت تتحدث إلى رجل في المدرَّعة . وهي تشير إلى السطح حيث يرقد القنَّاص  .. إنها واشية 

إنفتحت المدرعة وأطل الرجل برأسه وكتفيّه ناظراً بإتجاه القنَّاص  , فرفع القنَّاص  بندقيته وصوب بإتجاه الرجل فأرداه لتسقط رأسه مرتطمة بجدار المُدرعة , أندفعت العجوز إلى الرصيف ,فأطلق القنَّاص  النار مرة أخرى. تفقِد العجوزُ توازنَها فتسقط في بالوعة وصرختها يتردد صداها , وبدون مقدمات دوّت رصاصة من السطح المقابل أسقط القنَّاص  بندقيته على إثرها وهو يطلق اللعنات . أحدث إرتطام البندقية بأرض السطح ضجة ظنّ القنَّاص  لهولها أنها أيقظت الأموات . توقف لكي يلتقط بندقيته ولكنه لم يستطع رفعها فقد وجد ساعده مُصاباً  , تمتم " لقد أُصبت" 

أرتمى ليلتصق بأرض السطح و زحف عائداً إلى حاجز السطح  , تحسس ساعده المصاب بيُسراه . كان ينزف مُخضَّباً كُمّ معطفه , وسريعاً سحب سكيناً من جيبه وفتحها على الحاجز, مستخدماً إياها في شق الكُم ليجد ثقباً صغيراً حيث أخترقته الرصاصه ولكن لم يجد ثقباً في جانب يده الآخر , إذن فالرصاصة إستقرت في عظامه , لا شك أنها هشّمتها , ربط  ذراعه المٌصاب أسفل الجُرح بسهولة , وضغط على أسنانه ليقاوم الألم 

اخرج ضمّادة ميدانية و ومزق غلافها بالسكين ,ثم كسّر عنق زجاجة اليود ليترك السائل اللاذع يسيل في الجرح , لتنتاب جسده نوبة من الألم المبّرح .وضع حشواً من القطن على الجرح وربط فوقه الضمادة رابطاً أطرافها بأسنانه , ثم أستلقى مقابل حاجز السطح مُغلقاً عينيه, محاولاً بكل عزمه أن يدْحَر الألم . أما في الأسفل ,في الشارع فكل شئ ساكن , فالعربة المدرعة كانت قد إنسحبت مسرعة برأس جنديها المتدلي من فتحتها , ومازالت ترقد جثة العجوز في البالوعة.
 
بقى القنَّاص  راقداً يعالج ذراعه المُصابه ويخطط للهروب , فالصباح يجب ألا يدركه وهو صريع جُرحه على سطح ذلك المبنى , ولكن عدّوه المتربص على السطح الآخر يحول دون هروبه , لذا عليه أن يقضي عليه أولاً واضعاً في حسبانه أنه لن يتمكن من إستخدام بندقيته . فقط كل ما يملكه الأن مجرد مسدس يمكن أن يحقق به مرامه  , لذا عليه أن يعدّ خطة

 وبعد أن نزع قبعته , وضعها على فوهة البندقية التي رفعها  ببطأ  نحو حاجز السطح لتظهر للعيان من الجانب الآخر, لم يمر الكثير حتى تردد صدى طلقة أخترقت منتصف القبعة , فأمال القنَّاص  البندقية للأمام  لتهوي القبعة , وقبض على البندقية من المنتصف ودلى يده اليسرى وأبقاها مُعلقة من فوق السطح ثابته لا تتحرك , بعدها بلحظات ترك البندقية تهوى هي الأخرى في الشارع وانخفض بجسده إلى أرض السطح ساحباً يده اليسرى  معه

زحف بسرعه على قدميه  مُطّلاً على زاوية السطح . لقد نجحت حيلته بالفعل , فالقنَّاص  أعتقد بعد أن رأى سقوط البندقية والقبعة أنه قتل هذا الرجل , لذا فهو يقف الأن أمام المدخنة ينظر في كل الأنحاء وظل رأسه جلياً مقابل السماء الغربية أبتسم القنَّاص  الجمهوري وصوب مسدسه من فوق حافة الحاجز, كانت المسافة حوالي خمسين ياردة , تصويب شاق في ضوء معتم , كانت يده اليُمنى تؤلمه كما لو كان يركبها ألف عفريت , ورغم ذلك حدّد هدفه . كانت يده تهتز متلهفة , ضغط على شفتيه و سحب نفساً عميقاً وأطلق النار , وكأن دوي الرصاصة أصابه بالطرش وأهتز ذراعه نتيجة  لإرتداد السلاح 

وحين أنقشع  الدخان , أمعن النظر وأطلق صيحة فرح , لقد أردى عدوه بالفعل , تمايل الرجل المصاب فوق الحاجز مُنازعاً الموت , كان يجاهد لكي يحفظ توازنه ولكن سقوطه كان بطيئاً كما لو كان حُلماً , أفلت البندقية من قبضته لتصطدم بالحاجز ثم أرتطمت بعمود محل الحلاقة في الأسفل محدِثة ضجّة جراء سقوطها على الرصيف 
 انهار الرجل المُحتضر ليسقط هو الآخر في إتجاه الشارع , تتقلب جثته في الهواء لترتطم بالأرض محدثة صوتاً مكتوماً ولا حراك بعده.نظر القنَّاص  إلى عدوه الساقط فسرت في جسده رعشه , ماتت شهوة المعركة داخله , فأشتد تأنيب الضمير ليعذبه أكثر وأكثر , سالت حبات العرق تعلن عن نفسها على جبهته , وألم به الضعف يعتصره جراء جُرحه و نهار الصيف الطويل بعد صيام عن الطعام ومراقبة من فوق سطح المبنى .شعر بالتقزز من ذلك المشهد , مشهد جسد عدوه المُهشّم , وبدأت أسنانه تصطك وهو يتمتم إلى نفسه , لاعناً الحرب وَنفْسَه وكل الناس 

نظر إلى مسدَّسه الذي يتصاعد منه الدخان ,أطلق السباب وألقاه على أرض السطح ,  فأنفجر المسدس مُخلفاً  هزة إنطلقت على إثرها رصاصة مرت بمحاذة رأس القنَّاص  . فأرتعب عائداً لإدراكه على أثر الصدمة . وبعد أن هدأت أعصابه أنقشعت سحابة خوفه و ضحك 
 أخرج قنينة الويسكي من جيبه وأفرغها مرة واحدة وشعر باللامبالاة تحت تأثير الكحول . و قرر أن يترك سطح المبنى ويرحل الأن لكي يبحث عن قائد المجموعة ليبلغ بما حدث . كان المكان من حوله يغرق في الصمت , ولا ضير من الذهاب والمشي خلال الشوارع , ألتقط مسدسه ووضعه في جيبه , ثم هبط من خلال كوة الضوء  في المنزل  إلى أسفل 

وحينما وصل القنَّاص  إلى زقاق متفرع من نفس الشارع , أنتابه فضول مفاجئ يدفعه ليتَّعرف على هُويّة القنَّاص  الذي أرداه قتيلاً  واعترف أنه ماهر في التصويب , أياً كانت هويته . وتساءل هل عرفه يوماً . ربما كان في مجموعته قبل إنشقاق الجيش . لذا قرر أن يخاطر بالعبور ليلقي نظره عليه . و صوب نظره ناحية ناصية شارع " أو كونويل " . ورغم أن على إمتداد الشارع كان هناك هدير الرصاص ولكن كانت الأمور مستتبة وهادئة في الأنحاء المجاورة .وفيما كان القنَّاص  يندفع كسهم يعبر الشارع ,  أنطلق وابل رصاصات الرشاش الآلي تمزق الأرض من حوله , ولكنه نفذ بجلده  . مُلقياً نفسه إلى أسفل بجوار الجثة , فتوقف هدير الرصاص .ثم ألتفت القنَّاص  إلى الجسد الميت بجواره لتقع عينيه على وجه أخيه
.

Tuesday, October 30, 2012

مُبتَسَر



في مستشفى بمدينة ساحلية جميلة... أنطلق صراخاً أعتادته جدران غرفة العمليات و الأجهزة التي تحتل حيزاً لابأس من الغرفة , صراخاً أعتاده العاملون بالمكان , أعتادته الأسّرة ذات العجل  , كان البكاء هو اللغة الوحيدة التي يجيدها حينها وربما كان البكاء إعلاناً عن وجود ذلك الكائن الوردي الرطب ذو الجلد الرقيق  , يُطلق عليه إصطلاحاً طفل وليد لأبوين لم تزد غربتهما في المدينة عن سنتين
دائماً ما يكون للطفل الأول فرحة , خاصةً لو كان ولداً , هكذا هي التقاليد والعادات في مجتمع يغلب عليه طابع ريفي, مازالت تتسحب إليه المدنية , حينها إستقبل الجد حفيده الأول بسعادة ملأت عينيه ,يهزهزه ويمرجحه على قدميه , يغني له ليضحك " حج  حجيجه بيت الله والكعبة ورسول الله"بدي أزورك يا نبي  يلي بلادك بعيدة "  فيضحك الطفل  حين يقذفه في الهواء عالياً ليلقفه مرة أخرى بين ذراعيه .. يضمه كما لو كان لا يود أن يتركه إلى الأبد
قطع الخبز الصغيرة يقطعها ويُسقطها في صحنٍ خزفي له رائحة مُحببة للنفس , يغمر قطع الخبز بالحليب , ويقلبه جيداً حتى يصبح طرياً , يراقب جده بيديّه المرتعشتين وهو يمارس طقوسه الخاصة في صنع ذلك الطبق اللذيذ , ورغم أنه لايحب شرب "اللبن" ولكن ما أن ينادي الجد على الجده لتحضر ملعقة له .. يراقب الطفل جده وهو يرفع المعلقه الممتلئة بقطع الخبز المُبلله باللبن بيديه إلى فمه  ليفعل مثله .
يقلب بين أرغفة الخبز المرصوصة أمامه فيما يُعرف بالتعيين .. يتخيّر أسهلها في المضغ ليدهنه بقطعة جُبن .. مجرد إجراء إضطراري يقوم به يومياً حتى يقدر على إكمال اليوم على كلتا قدميه , غداً سيعود .. سيعود بالتأكيد إلى أحضان أمه ... أمه التي لايستطيع أبداً محوها من ذاكرته صورتها وهو يحمل حقيبة ظهر والسماء تودع سواد الليل ... وهي كانت تودعه بالدمع قبل أن يتوجه إلى " الهايكستب " ليتم ترحيله لوحدته .
أنطلق يشق صمت الفصل الذي كان يتابعه بنظراته  كأنه كائن هبط تواً من المريخ , وفي آخر الفصل وجد مكاناً له بجوار أحدهم الذي لاحظ بدوره , لسانه المعوّج وصمته الطويل .. قادم من الخارج توازي تماماً قادم من المريخ فلا يستطيع أن يجاريهم في أحاديثهم السافرة عن الجنس , ولا في سبابهم المستمر بالأب والأم كأنه تحية صباحية يستفتحون بها أحاديثهم التي لاتنتهي عن فتيات المدرسة المجاورة وعن تجاربهم العظيمة . فتاة ما الفتاة ؟ هو يخجل حتى أن يرفع عينيّه في وجه أي فتاة إلا واحده فقط,ربما لأنه أعتاد على مشاركتها اللعب منذ الصغر .. لا يعلم أين أستقرت بها مشيئة الله , هل تزوجت وأستقرت في منزل تربي أولادها تسقيهم الحليب وتغطيهم قبل النوم وتهذب لهم شعرهم قبل المدرسة .. هل أولادها أذكياء عيونهم تتقد بالذكاء مثلها تماماً
أم هي لم تتزوج, فقط كرست حياتها لدرساتها المستمرة وبحثها الدؤوب عن العلم بين أروقة الجامعات .. ربما وقع نظره عليها يوماً أو حتى أحتك بكتفها بدون قصد في أحد الحافلات ولم يتعرف عليها ,  هل تتذكره كما يتذكرها جيداً؟ يتذكر كلماتها التشجيعيه له وحثه على الإستذكار الدائم , نظر إلى الورقة ذلك الرقم ... رقم عشري مكوّن من رقمييّن هزيليّن أتفق كليهما على القضاء عليه
يحاولان أحكام ربط حبل اليأس على رقبته .. نظر للرقم الذي لم يتعدى التسعون وقرر أنه لن يعود إلى ذاك الطريق مرة أخرى , ذاك الطريق الذي رسمه له أباه , طريق ينتهي حتماً بأن يورثه معطفه الأبيض , خيّب أملهما فيه ,الحياة في مصر تستدعي مرتباً ثابتاً ووظيفه حكومية حين تتعثر قدميّك لتسقط ستجد مبلغاً مالياً حتى لو كان يسيراً تتكأ عليه .. وحين ينتهي بك المطاف  ستقف في طابور لتستلم معاشاً تستدفأ به في طقس بارد لايرحم, الأباء دوماً يريدون أبنائهم أفضل منهم ربما ليكّملوا الجزء الناقص فيهم , ربما ليتموا ما لم يستطيعوا إتمامه هم في حياتهم و ربما ليُشار لهم بالبنان هذا إبن فُلان.
الأبن طبيباً في السنة الخامسة عامين أو أكثر وسيتخرج من جامعته الخاصة التي كلفت أموالاً طائلة ,  لا بأس طالما أن أسمه أصبح مسبوقاً بحرف الدال ويسير في الطريق المرسوم بدقة , وبعد أن يُنهي الأب مكالمته التليفونية مع صديق قديم بعد أن أخبره أن يمر عليه ليأخذ بعض مراجع "الباطنة " .. يفكر قليلاً أليس كان من الممكن أن يكون إبنه هو من حظى بتلك المراجع الأن لو كان وافق أن يكمل حتى لو كلفه مبالغ طائلة,     سلمهُ صاحب مكتب الترجمة مبلغاً من المال دسه في جيبه وحينما وصل البيت , هرول إلى غرفته أغلق بابها و أخرج أوراق النقود المهترئة .. عدها واحد ..إثنان ..ثلاثة..  أربعة  .. خمسة  ..خمسة وخمسون جنيهاً هو كل ماتقاضاه مُقابل ترجمة مايزيد عن ثلاثون صفحة عن أنطونيو لوبيز دي سانتا أنا وإضطرابات المكسيك ..ودَ أن يعلقهم كما لو .. كانوا لوحة نادرة لأحد رسامي عصر النهضة, أدرك فجاءة بعد أيام معدودة أن الطريق ليس مُضيئاً أبداً ... ومتى كان الطريق ممهداً وسهلاً ؟  ناوله زميله عصاة طويلة وإبتسامة واثق وأشار له " هذه ستمهد لك الطريق وتذلل لك الصعاب "  أستهجن الأمر في البداية وبعدها أمر طالبته أن تفتح يدها بسرعة لتُعاقب على عدم تأديتها الفروض على الرغم أنها لاتستطيع أن 'r'  من  'k' تميّز  
  ..  مع أنها ترتاد المدارس منذ سبعة سنوات , أسف.. الحياة تضطرنا أحياناً أن نقوم بأشياء لا نود القيام بها أبداً  

فلم يستطع أبداً أن يبادل الفتاة الوحيدة التي أفصحت عنها مشاعرها وتركها وحيدة على مقعد أتوبيس عائد وبجوارها مقعد أخر شاغر .. ينتظر إنسان أخر لا يخشى الحب والإبتسامات الودودة  
نظر له وعلى وجهه إبتسامة ليس لها معنى " هل تريد أن تقنعني أنك رفضت وظيفة  بمرتب لا تجني نصفه الأن من أجل أن تعمل ما تحب ..أم من أجل حفنة أطفال ومراهقين في نظام فاشل .. أم من أجل ماذا ؟ ؟؟  من أجل ألا يأتي يوماً ويشعر فيه أن الحياة أضطرته أن يسلك طريقاً رُغماُ عنه , وربما يجد الندم يطرق بابه. والندم صوت طرقه على بابك يختلف دائماً  في المرة الأولى , بالرغم أن كلُ الندم يلتهم ,   ألتهمه الندم أول مرة حين وقعت عينيّه على أحد المشاهد التي خلفت بُقعة غامقة اللون , بُقعة هي خليط من الإثم واللذة كتفاحة آدم الأولى تماماً لتظهر له سوءاته جلية وواضحة فجاءة ,وتسقط البراءة كثوب أخير كان يحميه من وخذ القلق  ,  .. فيجري لكي يبحث عن جدته تحكي له حكاية علها تطهرهُ  ,ولكن لاجدوى,  تموت جدته يوماًً ولكن تبقى دائماً حكايتها تتردد داخله ليحكيها فيما بعد  ..وكقط يخشى زخات المطر في إحدى ليالي يناير .. يجري ليتفادى الإبتلال تحت الشرفات , كان هو يتفادى النظرات بالنظر إلى السطور كأنه يغوص فيها ولا يريد الخروج إلى السطح أبداً , بكلمات متقطعة كان يتلو قصته للمرة الأولى , يحاول أن يستمد ثقته المُنهارة من عيون المتابعين له .. وأنصاف الإبتسامات وإيماءات رؤوسهم .. يسمع جلياً صوت نبضات قلبه .. يهدأه الطبيب أنها عملية بسيطة جداً ولا تمثل أي خطورة ولكنها ضرورية لتخفيف آلم ضرس العقل 
تداخلت كل الأحداث في رأسه أحداث خمسة وعشرون سنة كأنها خمس وعشرون يوماًَ , كأنه مُلقى على سرير في وسط طريق ضبابي, كشافات الغرفة والوجوه تخفت وتسطع  كنجوم مُنهكة في أخر الليل , وجوه من في الغرفة مُقنعه  مجرد وجوه محايدة وجامدة لا تظهر أي ملامح أو مشاعر لا تظهر أي إبتسامات أو مطمئنات .. أمتدت يد مُغطاة بالقفازات تنبعث منها روائح المستشفيات لتثبت قناعاً مُتصلاً بأنبوب مطاطي شفاف ,  كانت الحياة تتمثل في ذلك القناع الذي يمد رئتيه الصغيرتيّن بالأكسجين اللازم للحياة ,لم يكتمل بعد لازال هشًا  ، وغير مستعد  للحياة خارج الرحم بكل مخاطرها , قضى أول ليله في صندوق زجاجي وسط أقرانه  يتابع أبويه وهما يتكئان على بعضهما البعض يبتعدان ليتركانه حتى يكتمل نمو رئتيّه الصغيرتيّن.



  .

Saturday, July 07, 2012

عُريّ


كانوا يمارسون هذا الفعل بشكل متقطع و فج ..فليس للتعجب أو الإندهاش مكاناً حين تجد عدد "ممن لا يُعدون على أصابع اليد"  قد بدأ يتجرد من كل ما ثقل وخف..يجرد نفسه بالتدريج مما يغطيه من قشرته الخارجيه ..  فتنكشف عوراتهم المُغلظة , لتظهر سوءاتهم ومساوئهم , لتنكشف بطونهم وأثدائهم المترهلة , تنكشف لحومهم الطرية لتلفحها بعض من سخونة الشمس وأحياناً بعضاً من الصقيع ,  لا يبالون ويصرون على التفنن للفت الأنظار أكثر , لايبالون بنظرات الإستهجان ... , وبمرور الوقت يعتادون كل هذا وتضعف نظرات الإستهجان ويصبح إصرارهم على التعري والتجرد أقوى .. فيضحى التعري مقبولاً وتألفه النفوس .. والقلوب والأبصار ,و
يمارسون هذا الفعل بشكل دائم و فج و لا يجدون غضاضه ..فليس للتعجب أو الإندهاش مكاناً حين تجد عدد "لا تستطيع أن تحصيه على  أصابع اليد "  قد بدأ يتعرى وأنت الأخر معهم

Friday, July 06, 2012

غوايـــة


غواية || لو كنت في عصر غير ذلك العصر , لظننت أنها إمرآة العزيز , ترتدي الجينز والملابس الملونة المكشوفة وغيرها من الملابس الملونة الزاهية التي لم تصمد أمام إنحناءات الجسد , لا أنكر أنها تمتلك قدراً من الجمال واللباقة البراقة, وتعلق إبتسامة تغريك لتبادل الحديث .. وما أن تقترب منك يعصف بك عطر نفاذ يستثير حواسك ويراودها .. حَذرَني منها , ربما تودي بي في لحظات , أنقر بأصابعي على المنضدة محاولاً تجنبها أو تحاشي النظر إليها ... محاولاً سد أنفي من "لقط" عطرها النفاذ ... محاولاً أن أغمض عينيّ عن قوامها الممشوق ... وكأنني بمحاولتي تلك للإبتعاد أقترب أكثر ... أقتربت أكثر , تبادلنا التحية والإبتسام ... تحسست ملمسها الناعم , فركتها .... وأشعلتها
------------------------------------------------------
 على مدار الأيام القادمة .. سأنشر على التوالي مجموعة من الحالات المُركزة .. قليلة الكلمات

Thursday, July 05, 2012

بعد التحية ....



مازالت أم محمود تتعارك كل يوم مع عُمال جمع القمامة وتكيل لهم السباب والشتائم فيهدأهم أهل الشارع محاولين إقناعهم أنها سيدة عجوز بلغت من العمر الكثير , الكثير مما شهدت فيه حوادث وتجارب تشيّب الطفل الصغير , مازلت أتعرف على صوتها تفاصل بائعة الخضراوات  كل صباح على ناصية الشارع وتناهد مع هذه المسكينه فتعطيها ماتريد لتذهب عنها .. مازالت تتكأ على عصاها مائلة بجزعها إلى الأمام لتشق الشارع ببُطئ شديد و تتمتم بعبارات لايفهمها غيرها ,تتهادى بجلبابها الأسود نحو مدخل بيتها حتى تبتلعها ظلمة نهاية الشارع, هل تصدق أن محمود وأخوته لم تراهم أمهم ولا الشارع منذ خمسة شهور أو أكثر

,  مازال جاري عم سعيد الموظف بالإدارة التعليمية  يتشاجر مع زوجته كل صباح ونسمع صياحهما يخترق فضاء الشارع المكتظ بروائح الصباح , روائح الزيت الحار المخلوط بفول " أبو زينب " المدمس " وروائح الأبخرة  المتصاعدة من قدر الزيت المغلي العائم على وجهه أقراص الفلافل وقطع الباذنجان , رائحة الكلور و مساحيق الغسيل الشاردة من قطع الملابس المُعلقة  في الشرفات تتراقص في زهو, وفي أخر الليل  أسترق السمع إلى ضحكات عم سعيد وزوجته من " المسقط "  يخالطها صوت التلفزيون وجو عائلي حميم

مازالن النساء في الشارع  يقفن في الشرفات ساعة العصاري يتفاخرن  بغسيلهن  الزاهي ينشغلن في تعليق قطع الملابس المتباينة الألون بعد أن يقمن بتثبيتها بالمشابك الملونة  , فيضعن الملابس الداخليه البيضاء والغالب عليها اللون الأزرق "بعد أن نُقعت في الماء المخلوط بالزهر على أول حبل" ... ثم يضعن الملابس الملونة من جلابيب و سراويل وملاءات وشراشيف فتظهر كلوحة تتدرج فيها الألوان ثم يخبئن خلفها أقمصة نسائية

مازال رجال الشارع , عم سعيد و أستاذ ابراهيم زميله و عم أبو زينب و الحاج ربيع النجار ومعه حفنه من شباب من الشارع وآخرون من شوارع مجاورة  يجلسون في المقهى يشاهدون محطة تلفزيونية ما تعج بالتجليّات و الخزعبلات التي تُصب في آذانهم صباً , فنذهب أنا و أبو خليل صديقي إليهم  لنجلس ونفتعل مشاكل , وبعد الكثير من الجدل والصياح والصراخ  يغيرون المحطة .. فيستبدلوها بمحطة تتمايل فيها فتيات على دقات الطبول أو بأخرى يتصارع فيها رجال وصياح المشجعين يهز الحلبة  .. فنهدأ عله أخف الضرريّن


لم يتغير الشارع كثيراً بعد أن تركته,  فقط تزايدت أعداد عربات الباعة الجائلين كإنتشار البراغيث في جسد قط شوارع ,وبعد صلاة المغرب لازلت تستطيع أن تميز بوضوح هرج ومرج الأطفال يلعبون في وسط الشارع نفس الألعاب التي يلعبوها منذ عشرات السنين , تجدهم قد أنقسموا إلى مجموعات على حسب أعمارهم وجنسهم , فتجد مجموعة تلعب الكرة وأخرى يلعبون "الإستغماية " وأخرون يلعبون " كهربا " ومجموعة من الفتيات يلعبن " صندوق " فيتقافزن كالعصافير فوق مربعات رسمنها بالطباشير 
وأخرون يتسابقون بدراجات قديمة وصدأة أستئجروها من فوزي " العجلاتي " في أخر الشارع و مجموعة أخرى قد أنزوّا بجوار أحد مداخل البيوت يلعبون "ملك وكتابة " أو يلعبون بصور وورق أبتاعوه من الدكاكين وحينما تتعالى صيحاتهم تخرج لهم أحد سيدات البيوت فتصرخ فيهم فيهرولون هاربين وهم يتقاسمون الضحكات العالية .. يبدو لك حينها ياصديقي أنه مهرجان لن ينتهي أبداً , وعندما نسمع ضجيج غلق الدكاكين قبل منتصف الليل نعرف حينها أن يوماً رحل بدون رجعة , ويحط الصمت كطائر عملاق على الشارع ,على المنطقة بل على المدينه بأسرها , ينتهك صمت الشارع بعض نقر أحذية العائدين , أو صوت صياح بعض القطط  المتصارعة على كيس قمامة أو أنثى , أو نباح كلاب تسير في جماعات صغيرة تخترق الشارع والشوارع المجاورة


 أتذكرك كلما مررت على شرفة شقتكم التي لم تُفتح منذ أن رحلت , شرفتك التي ملأتها الأتربة  , تلك الشرفة التي تشهد على كل شئ , تشهد عن وقفتنا حتى منتصف الليل أو إرتشافنا الشاي فيها حينما أزورك ,أو حتى سهرنا فيها نستمع إلى أغاني عبد الحليم و فيروز وأم كلثوم على الكاسيت الذي أشتراه أبوك من السعودية بعد أن قلبنا الكتب على صفحاتها المفتوحة , أراهن أن ضحكاتنا و دندنات أغانينا المفضلة مازالت تتردد بين جوانبها  وجوانبي


غرفتك .. لم أستطع منع نفسي من سبرها كأنها جرحي العميق الذي لا يلتئم , رص كتبك في مكتبتك الصغيرة ومكتبك وسريرك وخزانة ملابسك و سجادة صلاتك المطوّية على حرف السرير , حاسوبك المُغطى , صورتك المُعلقة على الحائط مؤخراً , لم أستطع منع نفسي من دخولها حينما حملنا والدتك الطيبة بعد أن عادت من هناك , عادت من حيث أصرت أن تذهب ... إلى المُحاكمة
     

Tuesday, July 03, 2012

أن أبقيني داخل دائرة "آمنة "

سألني صديق لي ذات مرة ... ماذا أنجزت طوال حياتك ؟

صمّت طويلاً ... ولم أنطق و فكرت كثيراً .... ربما أكون مولعاً بالبدايات ...أكون متحمساً دائماً ... وما أن يمر الوقت حتى يتسرب الملل ... يلقي بأذرعه الطويلة الملتفة ... حتى على قراءة الكتب ... العلاقات ... الكتابة ,وما أن أقطع شوطاً ...أتوقف كالأبله لايدري شيئاً .... يوخزني ألم الإحساس بالتقصير الدائم ... لأني لا أكمل ما بدأت فيه

ربما يا صديقي ... تكون إنجازاتي طوال عدد سنين طويلة من الحياة
مجرد " وردة " أهدتني إياها طفلة يوماً ما ... وكلمات خطتها لي بأناملها , ربما تكون نظرة ... مجرد نظرة رضا ...أو إبتسامة رضا ... وحينما يتسرب الملل ممزوجاً بألم ... تراودني تلك الأفكار ...

كون أن ألم الإنسان على هذه الأرض ليست له نهاية .... فنحن نولد بالألم ونعيش بالألم ونموت بالألم , وما بال ... الحياة تجذبنا بتفاصيلها الكثيرة ... فتغرقنا بنشوات عابرة وجيزة .. ثم تقزفنا في هوة .. ... فأختلس ذكرى الوردة والإبتسامة والنظرة

الآلم و الأم ..... وكأن الكلمتين أقترنا حتى في تشابه الأحرف

ورغم أني كنت متسبباً في آلام وضعها .. كنت قرة عينيها .. غريب؟
من يتسبب في الآلم يكون الأقرب إلي قلوبنا , فالوطن رغم أنه يكدر ما تبقى لنا في الحياة من وقت ... إلا أننا كلما ضقنا به ذرعاً  نلعنه ونبتعد وسرعان ما توخذنا برودة ... فنعود سريعاً

ورغم أن تلك السيدة أصبحت لا تقوى على الكثير ... لم يرحمها ولدها وهي تستجديه أن يرفق بها ... أن يرحم تلك الهشه ... فترطتم كلمة " يا ضنايا " .... بي ... فأهتز ... تطلقها الأم بعد أن مزجتها ببعض الإستجداء الرحيم ..... تلك الكلمة التي تحمل بين طياتها سنون من الآلم يتبخر مع أول إبتسامة ... نظرة ... أو كلمة رضا ... وتصبح الوردة حُلماً باهظاً ومرهقاً


صديقي .... لا أجد الكثير مما أنجزته .. غير محاولاتي الغير مكتملة
(ألم أخبرك بأنني مولع بالبدايات )... لإستجداء الحياة كما تستجدي الأم ولدها العاق ... لإختلاس لحظات تبعدنا بقدر الإمكان عن الآلم ... أن أبقيني داخل دائرة "آمنة " ..... ولكن هيهات فكثيراً ما تأتي تلك السيارة المُسرعة بمحاذاتي تشق بركة في وسط الشارع .. فأحصل على " اللي فيه النصيب " 

Monday, July 02, 2012

أُسْطورَةٌ الشَامَـــات



(1)
أصبحت تشبهُ أمها إلى حد كبير , كان وجهها مدوّراً , مُنمنم القسمات ذو أنف دقيق , وحين تبرز قتامة السماء تلألؤ النجوم وبريقها, كانت قتامة شعرها و حاجبيها الكثيفيّن يحدان وجهها الصغير فيظهر مُشعاً كقطعة من القمر و عينيّها في وسطه كزيتونتيّن , كان شعرها  مُصففاً بعناية الساقط على جبهتها الصغيرة يفوح منه رائحة زيت مميزة تزينه بأطواق , ألوانه كانت تعجبني ,حتى أنني تمنيت حينها أن أكون بنتاً لنتبادل الأطواق الملوّنة , كنت أذهب إليها لأجدها مُقرفصة أمام أمها على الأرض ومستسلمة لها تماماً تدير ظهرها لها وهي منهمكة في جَدل شعرها المنسدل , تبادلني أمها السلام بدون أن تنظر لي لإنشغالها , تسأل عن أحوال أمي وأخوتي فأجيبها وأنا منشغل أنا الأخر في متابعة الرسوم المتحركة
   
توطدت علاقات عائلتيّنا ربما لأننا تجاوّرنا في المسكن , وربما لأن أبيها كان يقلني إلى المدرسة , وربما لأن أمي أعجبت بكعكة التفاح التي صنعتها أمها يوماً , كان ما يوطد علاقة أي طفلين لم يتعدا الثامنة مشاهدة الرسوم المتحركة واللعب لمجرد اللعب و لكننا زدنا على ذلك الحديث , نعم الحديث , الحديث الذي يتخلله بعض الكذب اللذيذ , إختلاق المواقف والتقمص والبطولات الزائفة و أحلام اليقظة الطفولية و الأساطير التي كانت تتحول إلى حقيقة على ألسنتنا , فنعيشها رغم أننا لم نعيشها يوماً
 
كان مايزال لدينا خيالاً خصباً نحلق به بعيد عن المدرسة والفروض المدرسية والمدرسين والمدرسات و الحقائب المكدسة بالكتب والكشاكيل , لكي نحلق بعيداً عن الأطفال المشاغبون الذين يضايقوننا دوماً, يضايقونها تحديداً وأنا أهب كبطل من الخوارق لأدفع عنها الأذى ضد هجوم الوحوش الكاسرة والعصابات المدججة بالسلاح 

أتعلمين أنني رأيت سوبر مان يسير في السوق بالأمس , فتتسع عينيها منتبهة لكلامي وكيف عرفته ؟ .. فأقترب منها أكثر كأنني أخبرها مكان مغارة علي بابا  السريّ , لقد رأيته يرتدي زيّه الأزرق المُميّز تحت ملابسه ,  هل حدثته ؟   فأهز  رأسي و وجهي يكتسي  بخيبة الأمل .. للأسف , يبدو أنه كان مُستعجلاً جداً  , ربما كان  ذاهباً لإنقاذ أحدهم  من براثن الأشرار و المجرمين
فترتسم على وجهها هي الأخرى علامات خيبة أمل كأنها تواسيني
 
كنا حينها نظن أن الحياة  فيها فقط الأشرار والطيبون , ويمكننا أن نتعرف عليهم بسهولة  فالأشرار وجوههم مُكفهرة , عابسه , يضحكون بأصوات عاليه ضحكات شريرة متقطعة و لهم حواجب مزجزجة ومنكوشه ,أتضح لنا فيما بعد .. العكس تماماً , ليس بالشكل ولا بالمظهر يُعرف الأشرار فنخدع بسهولة  في البداية ,  بل أتضح لنا أيضاً أن داخلنا أيضاً أشرار ... داخلنا ذلك الجزء الشرير , الجانب الأخر من القمر , الجوانب الخفية والشوارع الخلفية الذي لا يطأها الكثير .. حتى نحن لا نطأها أحياناً ولا نعلم عنها شيئاً 

أتعلم ... قالت لي صديقتي أنها رأت ساحرة شريرة , أخافتها كثيراً عندما نظرت إليها , كان شعرها منكوشاً ووجها يملؤه التجاعيد ... تحكي لي ذلك بنبرة في غاية التأثر  بالحكاية  , و كأنها هي من رأتها وليس صديقتها, فأرد أنا بلا أي مبالاة مُظهراً عدم خوفي, وماذا في ذلك ؟ , جدتي  في وجهها تجاعيد أيضاً , أيعني هذا أنها ساحرة شريرة ؟
 
هل تمتلك مِكْنَسَة ؟  نعم جدتي تمتلك مكنسة تكنس بها أحياناً مدخل البيت ... لا لا , ليس لتكنس بها مدخل البيت , من أجل ماذا إذاً؟
لكي تطير بها , فأضحك أنا .. ساخراً منها فتغضب جداً , أتصدقين أن المكانس  والمقاش الخشبية .. تطير  
فتضربني ضرباً لا يؤلم وتجري وقد أنفجرت باكية لتشتكي أمي ... كنت أعود في اليوم التالي وكأن شيئاً لم يكن نلعب ونجري مع أبناء الجيران في الحوش الخلفي , ورغم ضيقه كان عالماً شاسعاً بالنسبة لنا نصول ونجول فيه حتى نودع الشمس لا نمل ولا نكل ونكمل اللعب في شقة أحدنا ... حتى يحط علينا طائر النوم الكاسر فأغل حتى تحملني أمي بعد أن تنتهي من مسامرة هنا أو هناك وتودعني إلى السرير وأنا أحلم بالحكايات والأساطير .. 

هل رأيت شامة من قبل ؟   ما هي الشامة ... وكأنها أكتشفت قارة جديدة و أستطرد في حديثها المشوّق , كانت أمي تحمم أختي الصغيرة هذا الصباح ولمحت تلك البقعة الداكنة اللون على ذراع أختي , فقالت لي أمي إنها " شامة أو وحمة "    إنفجرت الأسئلة في عقلي حينها  هل هي موجودة عند كل الناس ؟ وما فائدتها ؟ هل من يمتلكون تلك الشامات تميّزوا عن بقية البشر , يمتلكون قوى خارقة  مثلاً وهل عندي واحدة مثلها ...؟  تسللت إلى المطبخ يومها لأحاول أن أعرف من أحد مصادر معلوماتي حينها ... أمي أمي هل تعرفين ما هي الشامة ؟

نظرت لي بإستغراب , وبلا أدنى مبالاة ... وهي منهمكة في تقطيع البصل ..  بالتأكيد , ماهي إذاً هل عندي واحدة ؟ وهل فعلاً أصحاب الشامات يمتلكون قوى خارقة ؟  صرخت في وجهي باكية من تأثير البصل  أغرب عن وجهي الأن " الله يخرب بيت الكرتون اللي بوّظ دماغك "
.... أبي .. أبي وأرتميت في حضنة متدللاً على حين غرة " كالقضا المستعجل"   فتكرمشت الجريدة
فحملني ليضعني جانباً بعد أن قبلني ... وقال بدون ان يلتفت " بابا يقرأ الجريدة "  ... فتأملته بنظارته الساقطة على أرنبة أنفه ممسكاً بالقلم يحل تلك المربعات السوداء والبيضاء .. ولم أكن أعلم كيف يستمتع بشئ صعب وسخيف كهذا , وأخترت الوقت المناسب لألقي أسئلتي في وجهه الواحد تلو الآخر ...." بابا .. هل عندي شامة ؟"    فلم ينتبه فأعدت سؤالي بنبرة أعلى  .. فأنتبه
شامة ... لماذا تسأل ؟ ... هل كل الناس عندهم هذه الشامه ؟ ,  بالتأكيد لا , نحن لا نشبه بعضنا البعض , هناك من يمتلكها وهناك من لا يمتلكها ... فوجدت العبارة صداً داخلي .. إذا أنا مُحق .. إنها شئ  مميز لا يمتلكها الجميع , ما حكايتها إذاً ؟ 
وجذبت أبي للحكيّ بعد أن أستلذه... حينما تتوّحم الأمهات يا صغيري في فترة الحمل على طعام معين .. يجدن أطفالهن بعد أن وُلدن قد طبعت على أجساد أطفالهم .. صورة مشابهة للطعام الذي توّحمن عليه ... فقاطعته وما معنى .. تتوّحم
تتوحم أي  ترغب في أكل طعام ما قبل الولادة ...  راقتني الحكاية كثيراً , حكاية ساحرة  , ياله من شئ رائع كم أود أن أتوّحم على 
زجاجة كولا فأجدها قد أنطبعت على جسد طفلي  بعد أن يُولد ... أبي .. أبي و على ماذا توّحمت قبل أن أولد ؟   ماذا ... من توحم ؟ أنت يا أبي  ...  كاد أن ينبطح على الأرض من شدة الضحك ... "الرجال لا يتوحمون يا ولد "  ... يا خسارة ... ماذا ؟
إذن على ماذا توّحمت أمي قبل أن أولد ؟ ...  إذهب وأسألها هي من توّحمت وليس أنا ؟...  فأدرت ظهري وشرعت في شق طريقي مُفكراً كيف أحاول أن أعود لأسأل أمي مرة أخرى ولا تضربني ...  وإذا بأبي يقول ... " أتذكر أنك بعد أن ولدت كان هناك شامة على وسط ظهرك "   فجريت حينها إلى المرآة المُثبته في دولاب غرفة النوم بعد أن شلحت قميصي ... ووقفت ظهري للمرآة أبحث عن الشامة ........  وبعد بحث مُضني
صرخت كأرخميدس ... وجدتها وجدتها ... ولكن ما هذه ... أنها بقعة داكنة اللون , بطول نصف عود ثقاب , ما هذا الشكل ؟ 
سيف؟  ... أنه سيف .. أي سيف يا أبله , لقد قال أبي "طعام"  ... إذن ماذا يكون؟

كيف حال بُرتقالتِكِ الصغيرة؟  ضحكِت وحينما ضحِكت شعرت بتلك الطفلة التي كنت ألهو معها . تلك الطفلة التي غاصت وسط إمرآة لم أعد أعرفها , تشبهين أمُكِ إلى حدٍ كبير ,عينيّك أصبحتا أعمق , يكسر بعضاً من بريقهما نظارة طبيّة , حاجبيّك الغزيران أضحيا   مشذبان أنيقان
ماذا تطلبين ؟   نسكافيه لو سمحت, وأنا  نسكافيه أيضاً ... شكراً 

سادت فترة صمت طويلة وحينما شرعت في سؤالها عن أحوال العائلة , كادت هي الأخرى أن تتحدث, فضحكنا... أنتابتني حالة من الحنين والإشتياق إلى تلك الأيام , تسألت هل هي الأخرى تنتابها نفس الحاله , تذكرت ذلك اليوم الذي كانت تعانق الشمس فيه السُحب التي تطوي داخلها بعض أشعتها الحارقة , كنا نجلس متجاورين وبدا عليها الحزن 
لا أريد أن أكون كبيره يوماً 
ولكن أنا أريد أن أكون كبيراً ... سأصبح في طول أبي ورفعت يدي في الهواء 
نظرت لي و كنت أرى بوادر دموع في عينيّها... الكبار يؤذون بعضهم البعض كثيراً , يسببون الألم 
لم أفهم حينها ما تقصد ولكن فهمت جيداً أنها تتألم 
 إذن سأخبرك أمراً لا يعرفه الكثير...   فقاطعتني.. عن الشامة , أتضح لنا أن الجميع يمتلكون شامات تحت ملابسهم ولا شامتك زادتك شيئاً ولا شامتي  فعلت .. إنها مجرد علامة
فأجبتها في إصرار .. سأعرف حتماً ولكن الأمر الجديد الذي أريد أطلعكِ عليه مختلف , هل تعرفين أين تنام الشمس طوال الليل ؟
لا أعرف ... خمني إذاً ... في البحر نعم في البحر رأيتها عندما سافرنا للبحر , كانت تغوص فيه ولا تخرج إلا ثاني يوم 
لا .. ليس في البحر   

Wednesday, June 27, 2012

فُراق مؤقت

إتصال من صديق يقطع عملي على الرغم من أني عادة ما أتجاهل الإتصالات وقت العمل ....  ألو .... البقاء لله
سألت جدتي يوما هل يحب الله أن يجعلنا نشعر بالألم والحزن حينما يموت الناس ؟   قالت هذه سنة الحياة منذ أن خُلق أدم حتى أنبياء الله ورسله ماتوا ..ألا نموت نحن , هو فُراق مؤقت يا بُني وليس مالا نهاية

حالة من الحزن الشديد تعتريك حينما تعلم أن شخصاً ما كان يسير معك في الطرقات يوماً , صافحته يوماً , أحضتنته يوماً وتحدثت معه حتى لو كانت مجرد علاقة عابرة , مجرد محادثة قصيرة , مجرد عناق في مناسبة سعيدة تتبادلون فيها الإبتسامات والقُبل الخالصة , يكفي أنك لا تتذكره بأي سوء ... يكفي هذا . كم هي وظيفة حقيرة التي لا تحترم مشاعر إنسان وتجعله يبتلع حزنه بمرارة تاركاً غُصة ليكمل ما بدأه ليرغم إبتسامه على الظهور , إبتسامة صفراء , أحسست حينها أنني مجرد مهرج  أو بلياتشو 
يقدم عرضاً  في السيرك لينتظر تصفيقاً حاداً في النهاية من الجمهور ثم ينزوي في ركن قصيّ  ليبكي وحيداً لا يرى أحداً دموعه

كأن الإنسان داخله كائن ما يرفض الموت ويحاول تجاهل تلك الحقيقة التي تطارده طوال حياته , يحاول أن يتناساها وحتى إن حدثت وعشناها بكل تفاصيلها لا نصدقها , نظل مبهوتين فترة غير مدركين
الموت كالسفر الطويل , أمخيف هو؟ , الطيبون لا يخافون من الموت , إذن أنا لست طيب ياجدتي لأني أخاف أن أموت , لا ياقُرة عيني إذا لم تكن أنت طيب فمن يكون الطيب وضمتني فألتصقت رائحة شالها الأسود ولم تبرح مكانها في الذاكرة حتى اليوم , أنت فقط تخاف ما تجهله, أتخافين من الموت يا جدتي؟   لمعت عينيها وإبتسمت  ومن لايخاف يا ولدي ولكن شوقي يتغلب على خوفي ,شوقك إلى ماذا ؟

متى ؟ .. بعد صلاة المغرب , ينتابني توتر خوفاً من عدم اللحاق بصلاة الجنازة , سأحاول جاهداً أن ألحق الصلاة  إن شاء الله
كنت أتمنى حينها ألا يؤذن المغرب أبداً , بدا لي أن الأجواء مُفعمة نوعاً ما بفرحة و أعتقدت حينها اني وحدي الحزين فقط  السماء كانت تحاول ان تواسيني , لتكتسي بالتدريج  برداء أسود بعد أن أنزلقت الشمس و ابتلعتها الحقول , ربما السماء هي الوحيدة التي تضامنت معي , وفجأة صدح الأذان  وبالكاد كنت مُنطلقاً للتوّ  , وأنقبض قلبي لسماع الأذان , كيف أسامح نفسي إذا فوّت الصلاة؟


أشتاق لجدك يا ولدي, أعطتني الحياة الكثير وأخذت مني أكثر , أثقلت كاهلي بالكثير من أحمالها , ألم يأتي الوقت لكي أستريح , 
ألا تحبيني يا جدتي... أتريدين مفارقتي ؟ يعلم الله  أنك تسكن قلبي , ألم أقل لك إنه فراق مؤقت سنتقابل بإذن الله ونجتمع كلنا في الجنة , حياة بدون ألم وبدون حزن بدون فراق ووداع وتظاهر وإدعاء وكذب , الطيبون فقط ... الطيبون

مات , رحل , ذهب ثلاثة حروف , هي كلمة من ثلاثة حروف فقط تخبئ الكثير والكثير , الكثير من القسوة الغير مبررة - لنا على الأقل - الكثير من الحزن , كنت أدرك أنها حالة رغم ثقلها على نفس الإنسان  إلا أنها مؤقته سأنساها حتما بعد أن تقطع مني ذلك الجزء الذي لايعود أبداً ولايعوض  , يومين , يومان , ثلاثة أربع سبع أسبوع شهر ... حتماً ستنسى .. حتماً ستخدر وتفيق على ألم أعظم , وتظل تلك الفجوة داخلك... هوة عميقة من الحزن تسقط فيها , بئر رطب يبتلعك بعد أن يلعقك ويمضغك جيداً .. فتمسي لقمة سائغة للحزن , كما كانت صرخات أمه المنحوته على جدراني الأن تمزقني تطحنني بين شقي صوتها المتهدج ونداءها عليه

ماذا .. أنا سأموت أيضاً , يوماً ما سأموت ربما الأن , بعد لحظات , ربما غداً , ربما, لماذا أنسى ذلك ؟

جدتي ربما  لم أعد ذلك الطيب الذي كنت تحتضنيه , جدتي بالأمس كنت أمشي بين القبور في الظلام , لم أشعر بالخوف والرهبة الشديدة , الصمت الشديد كان يلف المكان, شعرت بسكينة عجيبة ... ياااااه سنصل هنا في النهاية ... هل يرانا الأن الأحباب الذين رحلوا يا جدتي .؟ هل تستطيعين الشعور بي هل تسمعين دعائي لكي ولكل الراحلين ؟  جدتي  بالأمس جاءكم صديق لي
له إبتسامه طيبه وروح خفيفة... صديق من سني , فاستوصوا به خيراً  حتى نلحق به و نسعد برؤياكم بعد ان ننفض غبار السفر الطويل.