Friday, August 12, 2011

مجرد إجتهاد


نظرت إلى الطفل طويلاً ... تأملته كثيراً وكأن صورة الطفل المتمثله أمامي أثارت داخله الكثير .. فيما يفكر ياترى ؟ يجهل بالتأكيد الغد تماماً , ينتظره الكثير و الكثير من التفاصيل ... تفاصيل الحياة التي سوف تغيره تماماً ... ربما رأيت نفسي فيه .. رأيت ذلك الطفل الغض الذي كانت أقصى غاياته في حياته الصغيره هي شراء لعبه جديدة يضيفها لمجموعته الثمينه ... او فسحة مع أولاد العم تتصاعد فيها ضحكاتهم وصرخاتهم الطفولية يطاردون فيها الزمن ولا يدركون أن الزمن هو من يطاردهم ..أفتقد براءته كثيراً .. أفتقد ذلك البال الخالي .

كنت ذلك الطفل المنطوي الهادئ الذي لا يتحدث كثيراً ... أرادوني طفلاً مثالياً وضعوني في قالب الطفل المثالي .. يضربون بي المثل في طاعتي وإذعاني الدائم ...وصراحة لم يتوانى أبي وأمي في إحاطتي بالحب والرعاية التي كانت تزيد في بعض الأحيان عن الحد.. مازلت أتذكر أمي في تلك الصباحات الغائمة وهي تمشط شعري وتضع عليه زيت رائحته نفاذه يسخر منها أطفال الصف ... أبي يأخذني من يدي إلى المدرسة كل يوم .. يحدثني في طريقنا القصير عن أنه سيشتري لي دراجه إذا أصبحت الأول على الفصل هذا العام ... وأجدني هائماً وعاشقاً لتلك القطعة المعدنية ذات العجلتين .. تناديني أجراسها من بعيد وتداعبني أشرطتها الورديه في زهو ...   أما أصدقائي أو بالأحرى زملاء الصف الذين كانوا يتفانوا في جعلي أضحوكة ..... مثاليتي وربما قصة شعري لم تعجبهم أبداً .. بالتأكيد قصة شعري بيد أمي لا بيدي وربما ساندويتشات " البيض" التي كانت أمي تدسها لي في حقيبتي المثقلة بالهموم .... ذلك الطفل الذي يجلس في أول " دكه "  ويمتلك كل الإجابات على الأسئلة المحيرة ... هو الطفل الذي يحظى بالقُبل من المدرسات الحسناوات منهم وغير الحسناوات ...هو الطفل الذي لم يعجب الكثير من أطفال " النمر الأزرق " هكذا أطلقوا على أنفسهم...... ولا أعلم حتى الأن حقيقة وجود نمر " أزرق " من عدمه .... ولكنهم كانو أطفال يمتلكون خيالاً خصباً .. ودائماً ما كانوا يُعاقبوا ويلاموا على شقاوتهم المستمرة  .

" المـــــوس أو الدحيـــح " ألتصق بي كليهما حتى فترة قريبة ولم أكن أبالي طالما أن الهدايا كانت تهطل عليّ بعد موسم الإختبارات فهذه دراجة وهذا كومبيوتر وهذا موبايل وهذا جهاز "بلاي ستيشن " وهذا وهذ وهذا .... حتى أدركت فجأة ودائماً ندرك بدون مقدمات .. وجدتني في السنة النهائية من المرحلة الثانوية ... كما لو كان حولي ضباب كثيف لا أرى من خلاله أي طريق او حتى زقاق ضيق ... فجأة أدركت أنني بلا رؤية واضحة للغد ..
" أمنية حياتي أن أعمل في مجال هندسة البترول "  كان هذا أحد الأصدقاء
أجبته " إشمعنا ؟ " ...  " حابب أكون مهندس بترول... بيقولوا شركات البترول مرتباتها عالية "
" أه ..." 
تركت فعل  التمني لأبي وأمي .. فمنذ أن كانت أمي تمشط شعري وحتى أصبحت في طولها تقريباً وهي تتمنى بمشاركة أبي حُلمي بدون أن يشركوني فيه , موقنين تماماً أنه حُلمي بديهياً....  " حلمنا ان نراك طبيباً مشهوراً " .. تلك الجملة التي تكررت حتى بت أشك أنها أمنيتي أنا .. باتت تتكرر داخلي كصداً لصرخة في جنبات أودية وجبال .  ولا مجيب .؟

" اقولك أدخل كليــــة   .....

 يا عم والله حقوق وقدم في النيابة 

المدرسين دول يا معلم... واكلينها والعة ...... 

مافيش أحسن من المحامين .... 

أفتحلك صيدلية 

دكتوووور ...قد الدنيا 

إنت عارف السفير بيقبض كام 

إيه رأيك في حربية .... 

تيقنت أن حيلة أبي القديمة " الحمار والجزرة " لم تعد ناجحة ... وتيقنت أيضاً أنني أسير في طريق لا أختاره ,وتيقنت أنني أصبحت لا أملك إجابات لكل الأسئلة المُحيرة , فالأمر بات مُعقداً وتعدى كونه سنة دراسية ما , أحصل فيها على درجات عالية ومن ثم يهدياني هدية ما تذهب نشوتها بالتدريج , هذا الأمر أصبح يتوقف عليه الغد برمته ... بنسبه كبيره ما سأختاره الأن سيحدد  المستقبل ....الذي يخيفني كثيراً . 
اتذكر جيداً حتى الأن دموع أخي التي لم أراها بتلك الغزارة حين وفاة جدتي , 96 هذا الرقم الذي يقترب من المائة وكان بصحبته بعد الكسور المعتوهه , كان هذا الرقم المحوري يتوقف عليه حياة إنسان ببساطة , باالتأكيد أبالغ ولكن لو كنتم شاركتموني بيتي واسرتي في تلك الأيام .. التي أقل ما توصف بالغير لطيفة أبداً ... فغيمة من الوجوم قد ألقت بظلالها الكئيبة على بيتي فترة طويلة فلسوء الحظ لم يستطع أخي برقمه الذي أصبح مصدراً من مصادرالتشاؤم لبقية حياته أن يلتحق بكلية الطب .. حُلم أبي وامي الأبدي .

ولكني لم امتلك بديل أخر غير ذلك الطريق " معقولة  تجيب مجموع كبير زي ده وتضيعه في كلية مجموعها أقل " ...... فمعظم الأمنيات المتاحة في فاترينات الامل مرتبطة بالعائد المادي الأوفر.
"دكتور "  سمعتها حتى قبل أن تخط قدماي الكليه وبدأت تدريجياً في تغيير تسريحة شعري , وأضحت البثور الملتصقة في وجهي أقل , ونسيت لقباي العزيزان اللذان كانت علاقتي بهما بمثابة عشرة طويلة لا تهون الا على اولاد ....
كانت بداية تفتحي على العالم الخارجي المُغري , وكان من المفترض أنني واحد من العباقرة المتفوقين دراسياً , وصراحة فنحن نستحق , يكفي فقط عمليات الإحتراق الداخلي والنحت والفحت والكحت .
عندما يتعرف الإنسان على تلك العوالم الخارجية التي كانت مجهولة بالنسبة له ويبدأ في تحسس تلك المسارات الخفية بالنسبه له بالرغم من كونها أمامه طوال الوقت , تزامن مع بداية دراستي الجامعية ولادة حُب جديد , وربما لأول مرة في حياتي أصبح شئ ما يستحوذ على تفكيري وبالتأكيد في المرتبة الثانية بعد الإستذكار , وبالرغم من فرحة عائلتي الشديدة ولكن كنت مطالباً دائماً بالإجتهاد في الدراسة ... فكما تقول أمي " لازم تحافظ على مستواك وتجتهد ... انت لسه مش دكتور .. السكه طويله .. ذاكر " وأبي يمدني بتلك العبارات التي تفقد معناها أحياناً من كثرة ما تلوكها الأفواه " المحافظة على القمة أصعب من الحفاظ عليها "


فالنعد لحُبي الأول الذي لا أعلم كيف بدأ وأين ومتى ولماذا , فقط كل ما أتذكره أنني وجدت متعلقاً بشدة بتلك العدسة التي أنظر من خلالها إلى العالم , محاولة أخرى مستميته من الأنسان أن يحبس الزمن داخل أطر ... صورة بأربعة أركان , ربما أعوّض ما فاتني من العمر داخل ذلك الصندوق الصغير , أعتبر أنني عدو للوقت والزمن , لأحتفظ بمجرد صورة تحمل بين طياتها ذكرى ما تضئ داخلي أنا ... مصباح أو قمر مكتمل , ولكن ما لا لم أتوقعه أن لا يقتصر هذا الضوء على داخلي فقط ولكن يضئ لي بوضوح طريق .. ضوء يشق لي طريق وسط ضباب كثيف , ضوء يلقي بظلاله المُبهرة ... وأخيراً  على حُلمي , أصرخ بشدة كالمجنون ....
الأن أصبـــــــــــح لــــــــــدي حُـــــــــلم ... ولكن 


يا هل ترى ما وقع ذلك على أبي وأمي ... أن يعلما أننا بصدد ترك الكلية في السنة الثالثة من أجل ...... كاميرا تصوير 
" أنت أتتجننت يا بني ... انت عايز أبوك يروح فيها ... إنت فاضلك اربع سنين بس وتتخرج وتشتغل "
"أضيع أربع سنوات من عمري على حاجه أنا مش عايزها .... على حلم غيري " 
" هو انت مش بتفكر الا في نفسك ...... أبوك وأمك عايزينك أحسن حد"
" أنا كده أبقى أناني ....... عشان عايز أكون حاجه عايزها ... ده أبسط حقوقي "
"إنت مش عارف مصلحتك فين "
" أنا عندي 21 سنة دلوقتي ... وعندي عقل بفكر بيه "


المشكلة أنك تصنع قراراً فاصلاً في حياتك وما أندرها تلك القرارات الفاصلة ... المشكلة الأكبر أن تلك القرارات يتوقف عليها سعادة وبؤس الآخرين , ولأول مرة في حياتي ... أجد نفسي أمام سؤال صعب , إجابته ليست في الكتب , بحثت وفكرت وبحثت وفكرت ... الكثير من التفكير والقليل من النوم والكثير من القهوة والقليل من النوم الكثير من الإنغماس في التصوير , كأنني أهرب به من الحياة المتحركة إلى الحياة الثابته الجامده , تصوير كل شئ وأي شئ عظيماً كان أم تافهاً .  أكتشفت بعد وقت طويل أن هناك أسئلة ليست في كتب نماذج التقويم ... أسئلة خارج المنهج للأسف لا يصلح معها الصم والحفظ الذي أعتدت عليه ... لأنها ببساطة ليست لها إجابات نموذجية .... أسئلة بلا إجابات نموذجية أو محددة ........... مجرد إجتهاد 


أجتهدت وقررت .... أليست تلك الشهادة التي يريدونها , إذن أربعة سنوات ستهرول سريعاً كما مرّ غيرها وبعدها سأكون حراً .

" إنت عبيط .......... عايز تسيب الكلية وتدخل معهد "
" ده معهد سينما ......"



نظرت إلى الطفل طويلاً ... تأملته كثيراً وكأن صورة الطفل المتمثله أمامي أثارت داخله الكثير .. فيما يفكر ياترى ؟ يجهل بالتأكيد الغد تماماً , ينتظره الكثير و الكثير من التفاصيل ... تفاصيل الحياة التي سوف تغيره تماماً , بالتأكيد سيكتشف أن الحياة بها الكثير من الأسئلة ..... نتخيل أنها بلا إجابات ....... صدقني لها إجابات ولكن إجتهد فقط .. ليس شرطاً أن تكون نموذجيه .. ولكن إنه مجرد إجتهاد