الساعة تعدت العاشرة مساءاً وأنا منكب بين الأوراق منذ ساعات في مكتب , مكوثي حتى هذا الوقت كان تحدياً سافراً لقواعد المكان , ولكن كانت المهمة تقتضي ذلك وكان السهر حتمياً مع " شريف ", أو حضرة الضابط " شريف " ... هكذا تقتضي قواعد المكان.
رغم أن فرق السنون بيني وبين شريف ليس كبيراً ... فهو يكبرني بسنة واحدة فقط , كان منهكاً هو الأخر ... منكباً على الأوراق على مكتب أخر , دلفت إلى ملفات الموسيقى على جهاز " الكومبيوتر " .. وحتى أكثر ملل العمل المستمر ... شغلت بعض الموسيقى ..... فيروز
فيروز ... كانت تذكرني بالخارج ..... خارج الدوائر الصفراء , الدوائر المموهه , القواعد , والأيام , والأسابيع ,والشهور كانت تنسيني كل شئ , حالة كاملة من الدفئ والشتاء والحب والوحدة والوطن الغائب والطفولة و اليأس والطيور والزهور والبحر ... والفتيات الجميلات .. صبية الأزقة والركض ... عالم ساحر من الحواديت اللانهائية كفيلة بصنع غمامة كثيفة حولي تفصلني عن الكون رغم أن في قلب الكون فتخلف مذاقاً جيداً بعد الدندنة في سري ...
قاطعني الأخر .. الجالس في الطرف الأخر من الغرفة
"شغل منير ... ! "
" مش بتحب فيروز ولا إيه ؟ "
" لا بسمعها ساعات.... انت اللي مش بتحب منير ؟ "
" عيب ..إزاي ... حاضر من عنيا "
" شوف كده .. أغنية " إيه .. يابلاد يا غريبة "
"ذوقك عالي ياباشا ... "
تسربت موسيقى ثمانينية ... وصوت منير يبدو غضاً كأنه يغنيها تواً بيننا الأن ... أخذنا ندندنها سوياً ... " يا خطاويَّه الغريبة ...
دنيا ولا متاهة؟ دايرة و بندور وراها
في صبحها و مساها .. آهة و راها آهة
يا خطاويَّه الغريبة ....
أعقبنا الدندنه بضحكة عالية رغم حزن الأغنية البادي من الكلمات .. ضحكة أظن أنها أيقظت النائمين ...
" واضح إن إنت بتعشق منير .... ؟"
نظر لي شريف ... بعينين مبتسمتين وكأنه كان ينتظر هذا السؤال في لهفة ويريده بشده .... " طبعاً ... أكيد ... الحمدلله إن جيلنا إتربى على أغاني منير ... مش حد تاني "
على رأيك .. .. " هو صحيح ... إنت وصلت فين في موضوع البعثة ده ؟"
أه ... الحمدلله لحد دلوقتي ... في مقابلة الأسبوع الجاي ..هاخدك بكرة بعد طابور " الهتاف * ... نقعد نتكلم شوية كده .
" من عنيا ... حاضر , لكن يارب نخلص من الملفات دي ... "
" يا بني .. ولو الملفات ما خلصتش إيه اللي هايحصل ... يا عم فُكك "
" ياسلام ... يا فندم أنا عسكري غلبان عايز أخلص جيشي في معاده .. إنت ناوي تقعدني معاك هنا على طول "
" طيب .. طيب إطبع النموذج ده ... عشان ناقص هنا عندي "
كام نسخة ؟
لحظات قليلة هي التي أشعر بها في هذا المكان أنني إنسان طبيعي غير مُنساق للأوامر والقوانين ... وكانت تلك من اللحظات القليلة ... حيث كان الضابط " شريف " يجلس متجرداً من " النجمتين " ... يجلس ب "ترينج" ... و " شبشب" ..... وأنا الأخر .. ورغم أن هناك سنة واحدة في العمر كانت الفرق ولكن هناك حولي ستة "رتب" عسكرية تفصل بيننا ... رتبة واحدة فقط كفيلة ب"تنغيص" حياتي , ولكن في الحقيقة هذا الضابط تحديداً كان قريباً من قلبي .. وكان هو تحديداً يحب الحديث معي دائماً حتى أنه حينما تم إختياره للتقديم في بعثة للولايات المتحدة .. جاء لي وطلب مني مساعدته في اللغة ... فرحبت بتلك الفرصة الذهبية لتحريك اللغة الراكدة في قعر الذاكرة .....
هل لو كنا تقابلنا في ظروف غير الظروف ... ومكان غير المكان لأصبحنا أصدقاء ... فنحن مشتركون في الأهتمامات.. ولماذا " لو" نحن بالفعل أصدقاء .. فهو يسمع فيروز ومنير ... نعم و أستعار كتاباً مني من قبل
( ربما لم تعجبني طريقة الإستعارة ولكن لا يهم .. المهم أنه أرجعه )
كان كتاب " إستمتع بحياتك " للعريفي " ... وأبدى إعجابه به ولكن كنت أشعر بعض الأحيان .. أنه ....
محمد ... محمد !!
أيوه يافندم ...
إنت نمت ولا إيه .... إملى بيانات الورق ده بسرعة ... يالا
أخذت الورق في صمت وبدأت ملئ البيانات .... وتركت ما كنت أقوم به
" محمد عايز أسألك سؤال ... بس تجاوبني بصراحة وما تخافش ؟"
إبتسمت ... خير يا فندم
" إنت إيه رأيك في شخصيتي ؟ "
إستغربت السؤال ... لم يكن متوقعاً أبداً , ولكن هذا يدل أني بالفعل مُقرب إليه ويهمني رأيه ... جيد , إبتسمت إبتسامه عريضة
" أنا هأقول رأيي ... لكن ..ممممممم
" أقول ... ! "
" بصراحة أنا أول ماشفتك ..أفتكرتك ضابط " إحتياطي " ...شكلك مش حربية خالص "
" أنفجر ضاحكاً ... حتى أنه رجع برأسه للوراء ... فضحكت بدوري
" للدرجة دي .. شكلي طيب مش كده ومش شرير زي ضباط الحربية "
"حضرتك هاتوقعني في الغلط ليه ... أنا قولت كده ؟ "
" إنت يا بني .. ماشفتنيش أول ما جيت الوحدة ... أنا كنت موقف الوحدة على رجل واحدة ... كنت لسه ملازم بقه ومليان حماس ... بس خلاص زهقت ... الحياة مملة زي ما انت شايف ... وسفر ومشاريع وتفتيشات وبهدلة وتحكم ... ده أنا صعبان عليا خطيبتي من دلوقتي .. مش عارف هاتتجنن لما نتجوز ... !
" إنت خاطب ... ؟ "
أه ... ده لسه قريب .. تانية علوم ... "
هاتعزمني عالفرح ؟
رن الهاتف المحمول ... أدار ظهره ... بينما عُلقت أنا بين السؤال والإجابة
ربما لو كانت شائت الأقدار لكنت أنا ضابط إحتياط بدلاً من كوني جندياً... فنصبح أصدقاء !
واتتني تلك الفكرة .. وكأن كان هناك جانب داخلي غير مقتنع بتلك الصداقة التي أحاول أن أقنع بها نفسي .. كأنه يأبي فكرة كوننا أصدقاء .... ويرفض الوقوع في حفرة " ربما " وهاوية " لو" ..... ويعترف بالأمر الواقع .. أما الجانب الأخر ... يتعامل كوننا بالفعل أصدقاء .. ولا عوائق .
أنهى الضابط شريف مكالمته ... ينظر في ساعته .." يااه الساعة واحدة "
أنا جعت .... أنده يا محمد للعسكري بتاع المتابعة وقوله يجهز أكل .. ويطلعه هنا ... فنفذت الأمر سريعاً , دقائق وجاء العسكري الخاص به ... بصينية كبيرة مملؤه بعدد من الأطباق .. " ماتنزل يا باشا تحت في الإستراحة أحسن "
" لا .. لا ... لسه هانزل وأطلع "
" وبينما أنا منكب على الأوراق ... في صمت يقطعه قضمات الضابط "شريف " وصوت الأطباق المهتزة على المكتب الغير ثابت تماماً على الأرض "
شاء جانبي الشامت الأن أن يذكرني بعبارة قالها ضابط ذو رتبة كبيرة لنا نحن الجنود .. عبارة لم أشاء أن أتذكرها أبداً .
نهضت فجأة ... أستئذنته و هممت في الخروج من المكتب لأجعله يكمل طعامه ... فإذا به ينادي عليّ ... ألتفت إليه ...
" محمد .... تعالى ... شغل أه يا بلادي يا غريبة "
إيه يا بلاد يا غريبة .. عدُوة ولا حبيبة؟
في الليل تصحي عيونِك .. و نجومِك .........................