Friday, March 11, 2011

يمامة



كان لي صديق أعتبره واحداً من الأصدقاء المُقربين , صهرتنا السنين معاً لنشكل مزيجاً متجانساً برغم إختلافنا , أعرفه منذ الكثير, نعم منذ الكثير ,سنين تكفي لأعرف تقريباً كل تفاصيل حياته ,اشاركه أفراحه و أحياناً همومه التي يبوح بها , فرقتنا الحياة ورغم ذلك بقينا سوياً , تقاربت عائلتينا كرد فعل طبيعياً , كان له أخاً كان يصغرني بحوال أربعة سنوات.
كان الأخ الأصغر المدلل دائماً أخر العنقود كما يطلقون عليه , كان لطيفاً ومرحاً ومحبوباً من الجميع , أتذكر ألعاب الطفولة في الشارع والعراكات الصبيانية , يوم ان كانت ضحكاتنا تعلو لتلمس السحب , كنا نضحك حتى تكاد تتوقف قلوبنا من كثرة الضحك, كانت أمي تسمينا عصابة , كنا نقضي الوقت سوياً أناوأختي الصغرى وصديقي وأخيه الأصغر أكثر مما نقضيه مع عائلتينا , في مدخل بيت الجدة نجتمع وكل منا يخرج الأشياء التي أتفقنا على أن يحضرها منا سلفاً , فهذه أعواد خشبية طويلة وهذه قطع "مشمع " وأكياس وهذه بكرة خيوط وهذا صمغ و هذه أوراق ملونة , كل هذا لنصنع طائرة ورقية .
كان حُلماً بعيد المنال حينها , نعم أن نصنع طائرة ورقية وتطير عالياً لتلمس السحاب كما تفعل ضحكاتنا , أنهمكنا نحن الأربعة ولو كانت أختي الصغرى ليست كبيرة كفاية لتدرك تلك الأحلام ولكنها كانت تشاركنا ذلك لم تكن قد تجاوزت السابعة , كانت تضحك لأننا كنا نضحك , فقط هكذا , فالنعد لحُلم الطائرة الورقية , ربما لم نكن نحكم ربط الأعواد جيداً من الوسط لذا لم تنجح , أم أن الذيل ليس طويلاً كفاية , كنا أصغر من أن نتقن صنع طائرة ملونة كبيرة , سئمنا من تلك الطائرات الصغيرة التي لا تقوى على مواجهة الريح ولاترتفع عالياً . في المحاولة الثالثة أو الرابعة على ما أتذكر نجحت , أتذكر تلك البسمة التي أرتسمت على وجه أختي وهي تقفز عالياً والطائرة تعلو وتعلو وتعلو وتعلو وتعلو , وتعلو ضحاكتنا نحن الأربعة و وترتفع " يمامه " هكذا أسميناها , أختارته أختي , كانت تحب اليمام وحلمت أن تقتني واحدة , كانت تحبها لأن جدتي حكت لها كيف أن اليمامة ساعدت النبي في الغار , لذا أحببنا نحن أيضاً " يمامة "أتفقنا أن تنام بين أحضان كل منا ليلة , كنت أساعد أختي عندما كانت تمسك بالخيط حتى لا ينفلت منها لجذب الرياح وحتى لا تطير نعم هكذا كنت أظن أني لو تركتها ربما ستطير مع " يمامة " .
كانت في البداية أياماً صعبة علينا, كنت أنتظر تلك الصورة المنطبعة في ذهني له , يوم أن جاء صديقي من أول زيارة له , أخرج هاتفه لأشاهد صورته , تغير تماماً أو ليس تماماً , فقد الكثير من وزنه بجانب شعرة القصير جداً , أشعر أنه أصبح أطول , أصبح لون بشرته داكناً إلى حد ما , متى أول أجازه له ؟ سألت صديقي , أجاب بعد شهر , وقت طويل ولكن هو أختار ذلك الطريق فليتحمل ويدفع الثمن .دقت أختي على الباب بعنف لأستيقظ , فتحت ووجدتها تلهث وتحاول تكوين جملة , لقد جاء !!.... من؟ وكأني أسأل السؤال وأستحضر الإجابة في نفس الوقت " ديدو " ,أومأت برأسها وألمح في عينها دمعة تحاول سحبها بسرعة , هرولت بسرعة وأنا أقفز على درجات السلم , وأفتح البوابة , وأجري إلى وسط الشارع لأحتضن " ضياء" , أحتضنته بدون أن أدقق في وجهه أو فيما يرتدي ,كان صديقي يقف بجواره " ديدو " لا هذا الأسم لا يليق أبداً بضابط شرطة , كفارس يرتدي بذته البيضاء النقية , دققت في وجهه أصبح رجلاً , كأني أكتشفت رجولته فجأة بدون مقدمات , برزت عظام وجهه , أصبح في طولي لفقده بعض وزنه , كان يبدو قصيراً فيما مضى ,لمحت أختي تقف في الشرفة , نظرت ورأيت نفس بسمة يوم أن أرتفعت "يمامة" و" ضياء" هو الأخر نظر ,أشار لها وأتسعت ضحكته بعرض وجهه تقريباً , ولمحت حباً ينبت ولم أشأ أن أتدخل .هاهي العصابة أجتمعت مرة أخرى " وتعالت الضحكات , أطلقتها أمي كمزحة وهي تقدم العصير للضيوف صديقي وديدو ووالديهوأضافت أم صديقي " كبرتم و شيبتونا " أتتذكرين يا "هند" وأنتي لم تتجاوزي الخامسة عندما كنت تنادين على ضياء ب "ديدو " هاهو ضياء سيصبح ضابطاً , أجابت أمي "كان صعباً عليها كثيراً لفظ ضياء وقتها , كان ديدو أسهل , " والله ومازالت تناديه ديدو بل نناديه جميعاً " وتعالت الضحكات ووجه هند قد أزدادت حمرته وهي مرتبكه تهرب من النظرات .أخرج سيجارة من علبة كانت متخفية في جيب سترته أثناء ما كنت أقود وكلينا متوجهين إلى وسط المدينة , أسترقت نظرة إليه تاركاً الطريق , ووجهي يعلوه نصف بسمة وحاجب مقتضب جراء إستنكار ومفاجأة , " منذ متى ؟" لم يجب , لا حظت قليلاً أنه تغير , حاولت أن أبدأ حواراً معه لأحاول أن أفهم , " ها كيف الحياة هناك ؟ هل أنت سعيد ؟ " أجاب بلا إكتراث وهو ينفث دخانه من النافذة التي أجبرت على أن أفتحها " نعم , قليلاً " , حاولت أن أستفهم منه عن وجود مشكلة ما , حاولت أن أسلك طريقاً ربما تكمن فيه المشكله , وحاولت أن أقنعه" تبقت سنة فقط على تخرجك من كلية الشرطة ", وأنه يجب أن يصبر قليلاً , غداً سيتخرج ويُعيّن ويصبح ضابطاً . لكن يبدو أن تلك ليست هي المشكلة , تركته قليلاً ربما يتكلم من تلقاء نفسه .أرتجلنا ومشينا وسط زحام وسط المدينة , لنصل إلى أحد المتاجر التي أقنعني أنها تبيع ملابس جيدة أبتاع منها في أحد المرات .
كنت أسير معه تاركاً له الشوارع التي نسلكها لمعرفته مكان المتجر , وجدته متوجهاً نحو شارع ضيق يقف بعرضه صفاً من الجنود الذين يسدوه , لم أشأ أن أعلم لماذا هو مسدود, ولكني وجدته متوجهاً مباشرة إلي ذلك الشارع بالذات , جذبته من يده وسألته إلى أين هو ذاهب , يبدو أن هناك مشكلة ما في هذا الشارع , وأشرت إلى الشارع المجاور والموازي له , أعتقد أن هذا الشارع سيوصلنا إلى نفس الإتجاه , أجاب " لا لا سنمر من هنا تعال " , لم أفهم ووجدته أخذ بيدي مخترقاً صف الجنود , وقام الجندي بدوره بالوقوف أمامه قائلاً " ممنوع يا أستاذ " غضب ديدو أوضياء لا يهم , وحاول دفعه ولكن الجندي كان أسرع فدفعه هو , لم تكن الدفعة قوية لدرجة جعلت ضياء ينعته بالجنون ويلطمه على وجهه وينهال عليه ضرباً , كنت واقفاً مذهولاً لا أتحرك ,و كان الجندي أيضاً مذهولاً وسقط على الأرض جاحظاً وناظراً إليه , فتجمع الجنود عليه وكادوا أن يفتكوا به , لم ...لم أعلم ماذا أفعل حينها هل أضرب صديقي الأرعن أم أضرب الجنود , ولكن أستدرك هو الأمر صارخاً فيهم " الا تعلمون من أنا ؟ " " أين الضابط المسئول هنا ؟ " جاء الضابط وأخرج ضياء " الكارنيه " ضحك ضحكة حاول أن يكتمها " فعلت هذا وأنت طالب فماذا تفعل وأنت ضابط " .

لم أشأ أبداً أن أتحدث أو أبدأ حواراً لأنني الأن فهمت , كنت أقود السيارة في طريق العودة والصمت يقودني في طريق الوجوم وهو ينفث دخان سيجارته الذي يكون غمامة رعدية فوق رأسي تضرب برعدها بعنف .هرولت لأفرغ ماتبقى في جوفي , ولم أتبين السبب هل كان دخان السجائر أم سبب أخر , سحبت قدمي إلى غرفتي , وأغلقت بابي لاحظت صغيرتي " هكذا أدعوها " حالتي تلك فتسللت في حنو إلى قلبي , أحتضنتها حضناً طويلاً ونظرت في عينيها وأنا أرى حزناً يشبه حزناً يوم علقت " يمامه " في سلك عمود الإنارة .
------------------  
كُتبت قبل الثورة بأسبوعين بعد أن أستلهمتها من موقف حقيقي

16 comments:

شمس النهار said...

عجبتني جدا

وعجبتني كلمة عصابه
الامهات دايما بتطلق بعض الاسامي علي اولادها واصحبهم وكان لي نصيب من الاسامي دي انا وانتمتي
ماما كانت بتقول علينا رياوسكينه

اما القصة نفسها لخصت اللي بيحصل في اي شاب جميل سوي بعد مابيدخل كلية الشرطه ويعد نفسياان يكون عدو للشعب بدل مايكون في خدمة الشعب

MTMA89 said...

قصة أكثر من رائعة..
حملت العديد من المعاني.. و كيف تغير الأيام فينا.. و تعصف بنا.. حتى أننا ننسى كيف كنا و لم أصبحنا كذلك..


تحياتي لك

محمد
:)

واحد من الناس said...

يعلمونهم في كلية الشرطه أن السادية هي الرجوله

وأن "الأدب" هو صفة قليلي الحيله

وأن الضعفاء وحدهم هم من يبدون احتراما للآخرين

يعلمونهم أن المواطن المصري مذنب يستحق الضرب بالجزمه حتى يثبت العكس

أعجبتني القصة كثيرا

معبرة ومؤثره

نور said...

أشعر حقيقة أنني أمام كمّ كبير من المعاني الإنسانية والاجتماعية والسياسية المتداخلة لست أدري من اين أبدأ
ربما إبداعك في الوصف ونقْلنا من المشهد الشخصي إلى المشهد العام
وكذلك التنقل بين المراحل الزمنية أكسب النص غنىً وثراء .. فخرجنا أن الإنسان يسهل عليه أن يخرج من جلده إنسان أبعد ما يكون عن نفسه وعن أحلامه وعن وسطه ومحيطه وشعبه
*
لكن " يمامة " بقيت وستبقى بـ روحها وذكرياتها حاضرة ولن تموت

دام إبداعك

Foxology said...

تسلم ايدك

بس

تحياتى

dramaqueen said...

القصة حلوة اوى
بدايتها جميلة وحالمة خدتنى لزمان زمان اوى
بس اتصدمت بعد كدة بديدو واللى عمله
انا مش عارفة
المفروض ان الشعب والشرطة والجيش مصريين
ليه مصرى يقتل اخوه ليه يضربه ويعذبه
ياترى هما بيشحنوا عقولهم بكلام غير اللى احنا نعرفه غير اللى ربنا قالهلنا ولا هما اصلا بيكون عندهم استعداد للأنحراف وانهم يأذوا غيرهم


بغض النظر عن كل دة
القصة رائعة
سلمت يداك

شهر زاد said...

السلام عليكم
قلم متميز وقصة رائعه
تسلم تحياتي

emad.algendy said...

صباحك رائق
ازعم انني منذ بدات التعرف على عالمك الجميل
لم استطع ابدا ان اتبين الفرق بين الخيال والواقع هنا
وهذا ابداع تام

يمامة براءة الطفولة وحلم الامان
ماكتبته عن يمامة حرك فيني الكثير من الحنين

يالله
كلماتك لا تتوقف عن الكلام والاعتمال فيني بانتهاؤها
تستمر لفترة تطول فاجدني استشهد ببعض ماكتبت امام صحبي

صباحك رائق كيمامة بيضاء ت
لامس حدود السماء
او كضحكة بريئة تتردد في جنبات الروح والقلب
فتلامس السحاب وتقطف حبات الندى

تحياتي

إنسان || Human said...

شمس النهار

متشكر جداً
هههههههههههه ريا وسكينة انتوا كنتوا بتعملوا ايه بالضبط؟

فعلاً كأن الشباب بيلبس وش تاني بعد ما بيدخل الكلية دي ... وده طبعا اعتقد لأن ما فيش محاسبة ومراقبة حقيقية

إنسان || Human said...

MTMA89
أشكرك على تعليقك ومرورك لاول مرة واتمنى الا تكون الزيارة الاخيرة
.....
تعصف بنا الايام بالفعل سواء كنا شرطة او عاديين لاننا في النهاية بشر
وبالتأكيد معرضين لظروف يمكنها ان تغير الكثير داخلنا
شكرا صديقي على مرورك

إنسان || Human said...

واحد من الناس

اكيد فهم لا يعلموهم بالشكل الكافي أن يكونوا رحماء بالناس ,,, وان لا ينظروا الى كل مواطن في الشارع على انه متهم دائما ...وانه دوما عليه ان يطيع الاوامر...شكرا ياصديقي

إنسان || Human said...

نور
مش عارف اقول لحضرتك ايه .. بس انا اكيد مبسوط لأن احساس وصل .. اكيد وانت لمستي جزء مهم جدا وان الانسان ممكن ينسلخ بسهولة جدا عن كل شئ ... وبدون أدنى شعور بالذنب ...؟

شكراً نور
شرفتيني ..و دايما تشرفيني

إنسان || Human said...

Foxology

وصلت يا باشا
الله يكرمك

إنسان || Human said...

drama queen
اهلا بيكي في مدونتي للمرة الاولى

هو احنا اكيد كلنا مصريين
بس احنا في المقام الاول بشر
وطبيعي جدا في الكويس وفيه الوحش
واسوء حاجه ان في افكار في غاية السوء ممكن تعشش في العقول ..ويكون اثرها كارثي وينعكس على سلوك الشخص ده
عموما هي دي الحياة وهو ده الصراع الابدي بين الخير والشر ... مش هي دي الدراما برضه

إنسان || Human said...

شهر زاد

وعليكم السلام.. اختي العزيزه
انا عارف اني مقصر معاكي جدا ومع كل المدونين في زيارات المدونات بتاعتهم ..لذا سأحاول تعويض ذلك .. واشكرك جدا على تعليقك

إنسان || Human said...

عماد الجندي

صباحك انت اللي رائق وصافي ياصديقي العزيز
صديق الكلمات ..ههههه

صباحك رائق كيمامة بيضاء
تلامس حدود السماء
او كضحكة بريئة تتردد في جنبات الروح والقلب
فتلامس السحاب وتقطف حبات الندى

----
بجد يا عماد من أجمل التعليقات اللي بشوفها من اول التدوين ... ولكن احيانا نعجز عن البوح :)