Sunday, March 27, 2011

مُـــخـــتـــلـف


كنت أسارع الدقائق والثواني , قبل أن ينتقل العقرب الصغير ليعلن منتصف الليل , كانت دقات قلبي قد توحدت مع ساعة اليد في معصمي , أسارع الخطى قبل الثانية عشر , قبل موعد حظر التجوال , أنظر إلى الهاتف الجوال , الذي أستسلم منذ قليل للإنهاك والتعب بعد يوم شاق , أحاول أن أنعشه قليلاً عله يعود , كل ما أخشاه الآن أن يحدث لي مكروهاً ولا أستطيع أن أخبرهم في المنزل عن مكاني , بالتأكيد هم الآن في غاية القلق والفزع , أتخيل أبي يقف أمام الباب , وأمي تبحث في المفكرة عن أرقام أصدقائي لتتصل بهم وتسألهم عني , بالتأكيد سيخبرونها أنني تركتهم منذ أكثر من ساعة , اللعنة على الطرق وخطوط السير المزدحمة قبل ساعات الحظر.
أنها الثانية عشر وأسمع الآن بأذني صوت أبواق عربات دوريات الحظر, وقد بدأت في شق طريقها الخالي والموحش إلا من بعض الهوام و بعض سيئي الحظ مثلي , أركض وأركض في الشوارع الجانبية , تتقافز الأفكار في خاطري  , رؤيتهم لي فقط وأنا أركض كافية لتثير الشك والريبة في نفوسهم , إذاً ماذا أفعل هل أسير بشكل طبيعي , أم ماذا ؟  
أحاول أن ألتقط أنفاسي مختبئاً بجوار صندوق نفايات في زقاق ضيق جانبي , أقرر أن أركض على جانب الشارع وإذا شعرت بقرب إحدى الدوريات , فلأختبئ بسرعة في أحد الأزقة الجانبية,
أسير على الخطة التي قررتها , ركضت كثيراً على الرصيف , وفجأة رأيت أضواء مصابيح عربات الدورية الساقطة على الإسفلت عند التقاطع , تراجعت بخطوات فزعة حتى لا أثير جلبة, وما أن استدرت لأدخل زقاقاً حتى شعرت بكفٍ ثقيلة تدفعني بقوة لأرتطم بالرصيف , أحاول أن ألتفت إلى الوجه , ولا ألمح إلا خوذة صماء ... أرى فيها انعكاس ملامح موجهي المذعورة !

لا أشعر إلا وإبرة تنسحب بعنف من يدي , لأكتشف أني قد وقعت في يد دوريات الأمن , كنت مستلقياً على سطح أملس وبارد و يدي اليسرى مُقيدة في أحد الأعمدة خلفي , جاء أحدهم ليفحص يدي اليمنى ويرفع ذقني إلى الخلف , ويذهب ... لا تتخيلون أبداً كم الأفكار الرهيبة التي كانت تتخبط في رأسي وتتصارع , كانت تتوالد وتختفي كأمواج هادرة تضرب بلا هوادة داخلي مُخلفة رعشة قوية ليست سبباً لبرودة الجو أو حتى السطح البارد الأملس الذي أرقد عليه , قطع شرودي في السقف المصمت أحد الحراس ( هكذا ظننت ) ليفك القيد ويصطحبني إلى غرفة أخرى تشبه غرفة تحقيق , تشبه التي أراها في الأفلام , مصباح صغير معلق في وسطها , مُسقطاً ضوءه في وسط الغرفة .

 في ذلك اليوم عندما عدت بصحبة أبي وأخي , نُهرت كثيراً من كليهما , وما أن فتحت الباب حتى أخذتني أمي بين ذراعيها وتخيلت أنها لن تتركني بعدها أبداً , نظرت لي ولطمتني لطمة خفيفة , كان لها وقعاً أكبر من تلك الضربة التي تلقيتها في الزقاق تلك الليلة , كانت تحاول النظر في عينيّ وأنا أشيح بوجهي إلى الأرض , لا أريدهم أن يروا دموعي رفعت رأسي و كانت تقبض بيديها على كتفيّ وتهزني بعنف " أنت رجل ... أنت رجل ..الرجال لا يبكون " .

لا أنسى أبداً تلك الدقائق الأخيرة في مقر الأمن في تلك الغرفة , رجل في اواخرالثلاثين يجلس على كرسي خلف المكتب الصغير , يشعل سيجارة , يقدم لي واحدة  فأومئ برأسي بالرفض على استحياء و يبدأ في الحديث : أنت تعلم ظروف البلاد جيداً لذا أنصحك في المرة القادمة ألا تتأخر إلى هذا الوقت , تواجدك في الطرقات إلى هذا الوقت يعرضك إلى الإعتقال .
أتهيأ لإطلاق بعض الكلمات ولكنه يسبقني "أعلم أنك لم تقصد ذلك لقد تأكدنا من هويتك " ...... وفي لمح البصر قفز بجسده فوق المكتب ليمسك بذقني بعنف " إذا كان هذا لايعجبك .... هَاجر ..أترك البلاد ..نحن لسنا جالسون هنا لنقبض على أمثالك لنكتشف بعدها أن طفلاً كان يلهو في الشارع لوقت متأخر " ....كان صوته يعلو ويعلو ورذاذه يخترق مسام وجهي بعنف , ترك ذقني وانتفض من مكانه فقمت بدوري لأجده يقبض بيده رقبتي ويدفعني إلى الحائط " إياك ... إياك أن نجدك مرة أخرى حينها لن يعثر عليك أباك أبداً " و سدد في بطني ضربة سقطت على الأرض على إثرها وأنهال بقدميه يركلني في أنحاء جسدي بعنف, وعاد إلى كرسيه لينفس الدخان كما لو كان ثعباناً ينفس سُماً و هو يطلق بعض الضحكات وأناأتلوى من الألم.
هَاجر" تلك الكلمة التي ترددت لأيام داخلي , بل لأسابيع كنت أتحاشى النظر إلى أبي , وهو أدرك السبب , يبدو أنه كان مُتفهماً , ترك ذلك المحقق داخلي أثراً سيئاً لا تمحوه الأيام ولا الأسابيع , كنت لا أطيق النظر في وجه أبي , كنت أشعر أنه يتألم بل يتقطع من داخله , لم ... لم تتلاقى عيوننا منذ فترة طويلة , في تلك الليلة , كنت مستلقياً على السرير .. لم أغفو بعد , وسمعت طرقاً على الباب , أجبت " من ؟ " ..... " أنا ... أنا أبوك " ..بصوت منخفض ومستكين , عضضت على شفتي , ونهضت في بطأ إلى الباب , وأرتميت جالساً وراءه " ماذا تريد ؟ .... أتركني أرجوك ..أتركني الأن , لا أريد أن أراك , لا أريد أن أسمع صوتك ..!؟
أرجوك يا بني .....أ ..أ..أنا أبوك وليس المحقق ...أعلم  أن هذا مؤلم ....؟
أرجوك ...أرجوك إبتعد ...إبتعد ..إذهب بعيداً 
  لمـــاذا "  أطلقها أبي وكأنه يقتلع شوكة من قلبه , أحسست بالألم في بحة صوته المتهدج وهو يمتنع عن البكاء 
ضربت على الباب عدة ضربات ...ونهضت من مكاني وفتحت الباب بعنف 
نظرت في عينيه ..وكأنه تلقى ضربة مني ...." أتعلم لماذا لا أريد أن أراك ...أتعلم لماذا؟  لأنك تذكرني به ..أنت لم تشعر بالإزدراء والقهر والظلم من رجل يحمل وجه أبيك ...لم تشعر بتلك المشاعر التي تدفعك إلى الجنون..أتعلم لماذا ؟ علمت الأن ...بالتأكيد لا تعلم شعور أن يسبك ويلعنك بنبرة صوت أبيك ..؟
علمت الأن ... أن يقهرك و يسبك أبيك 
أنا لست من قمعك أنت تعلم ذلك ... وليس لي ذنب في ذلك , أنت من تسببت بذلك
نعم بالفعل أن السبب ...أنت بالتأكيد لست هذا المحقق أنا أعلم ذلك ولكنك تحمل ملامح وجهه ونبرة صوته 
هذا ليس ذنبي .... هكذا هو العالم , هكذا خلقنا ...كلنا لنا نفس الملامح والصفات والعقول والأفكار والهويّات , والتقاليد و كل شئ ... كل شئ , ألست تشبه أقرانك في سنك , وأمك كذلك , وأختك أيضاً وأخيك وكل البشر من حولنا ... كلنا متشابهون , كلنا نمطاً واحداً , نفكر بنفس الطريقة , ونسلك نفس السلوك , ولنا نفس المعتقد والدين؟
لماذا ؟
لا تسأل ..لن تجد إجابة 

----------
هكذا ولدت في هذا العالم الذي تطابق فيه الجميع ليصبح كأنه نسخة واحدة , فمنذ ان تفتح إدراكي على هذا العالم وانا لم أبلغ اصابع اليد الواحدة , لم اميز أبي وأمي من صوتهم ولا وجوههم أو حتى أشكالهم , وعندما أرتدت مدرستي الاولى كان أقراني متطابقين في الشكل و في الهيئة وفي نبرة الصوت , وعندما كبرت قليلاً علمت ان هناك رقماً وإسماً على يدي اليمنى و أعلى رقبتي مطبوعاً منذ ان ولدت , وأيضا بطاقة هوية معلقة في الرقبة ...هكذا أعتدت على هذا العالم المتطابق, فكلنا نمتلك نفس الافكار والتقاليد والمبادئ , لذا اعتدنا على التطابق الذي وهبنا الراحة , هم كانوا يقنعونا بذلك في المدارس والجامعات, ان التطابق نعمة وميزة , لأن الإختلاف يسبب لنا الكثير من المشاكل والكوارث , وكانوا يبرهنون على ذلك بالآخرون ,  ولم يعطونا تعريفاً محدداً للآخرون ,  فقط أخبرونا انهم يقتلون بعضهم البعض , بل أنهم سينقرضون في النهاية بسبب إختلافهم , وقالوا أيضاً أننا تعرضنا لغزو ما تسبب في شذوذ بعضنا في أفكاره أوحتى هيئته , فأصبح مريضاً " بالإختلاف "؟
كان ذلك منذ سنوات طويله , سمعت أن النظام قاوم ذلك و نجح بالفعل في القضاء على معظم المختلفين عن طريق محاكم التفتيش التي كانت تعدم كل من يُتهم بالإختلاف , فكانت تهمة واحدة بالإختلاف من أحدهم كفيلة بالقضاء عليك انت واسرتك , وان كان القضاء على المختلفين من حيث الشكل كان سهلا ولكن كان القضاء على هؤلاء المختلفين من حيث الأفكار كان صعباً ,هكذا خلقنا نرفض الإختلاف بعنف ,لاننا أعتدنا على التطابق في كل  شئ 
منذ أن يولد الطفل الصغير وتولد معه مشاعرٌ تغرس في قلب أمه , تميز طفلها بين العشرات برغم تطابقهم في الشكل , هناك رابطة غيرمرئية ما تربط بين أفراد العائلة الواحدة , فأنت لا تميل إلى احدهن لأنك أعجبت بملامحها ,بل لأن هناك قوة خفية تجذبكما سوياً .
أعتدت تلك الحياة ورتابتها , فكل شئ هنا متطابق يسير على نفس المنوال, فالبنايات هنا ذات نفس الطراز حتى الطرق والمركبات والملابس , هنا لا مجال للإختلاف ولا مجال للتميز, لا مجال للشذوذ عن القاعدة, تلك القاعدة التي خرقتها تلك الليلة وأنا أركض في الشوارع عند منتصف الليل , هنا مقرات علاجية للمختلفين , فهنا أضحى الإختلاف مرض , والمختلفون مرضى ...؟
--------------------------------------------------------------------
أنتهت القصة ولم ينتهي عالمنا من إختلافه وتباينه منذ أن هبط آدم عليه السلام من الجنة لأنه أختلف, وسفك الأخ دم أخيه لأنه أختلف معه , وأختلف كل الأنبياء مع أقوامهم فإما أهتدوا وإما ذهبوا بغير رجعة , وأختلفت الشعوب مع حكامها فقامت الثورات , وأختلفت الدول فقامت الحروب , وأختلف رجل وآمرأة .... فخلفا طفلاً ممزقا ؟
قبل مئات السنين أختلف المسلمون مع ماجاورهم من حضارات مختلفة ومتباينة , فأنصهروا جميعاً في إناء واحد , أنغمست فيه فرشاة لترسم لوحة بديعة على مر العصور , ذاب فيها المسلم وغير المسلم , المسيحي واليهوي , حضارة مازالت تتحاكى بخرافيتها الأجيال حتى الآن,عندما يتتلمذ المختلفون على أيدي بعضهم البعض فيشكلوا لنا أربعة مذاهب كأربعة أعمدة ترفع سقف الإسلام عالياً...إختلافنا رحمة

9 comments:

مصطفى سيف الدين said...

الهبت يدي تصفيقا على تلك الكلمات الرائعة والفكرة العبقرية
لقد شرحت بايجاز وباسلوب ادبي مميز حال شعب كامل يقف في طابور واحد يبتسم نفس الابتسامةوقبل كل ذلك يخاف نفس الخوف
شعب كل ما فيه اخذ جرعته الكاملة من الخوف لتصمت الالسنة
عبقري انت اخي العزيز
تعودت بالفعل ان اجد شيئا مختلفا في تلك المدونة وانت لا تخيب ظني ابدا
تحياتي

شهر زاد said...

اخي
ارفع لك القبعة لكلماتك التي اوجزت واقعا لم نستطع فهمه على ارض الحقيقه فقربته مناا بسلاسة تعبيرك وتصويرك الصريح والصادق
وااااسف فعلا ان ظروفي حالت دون متابعتك ولكن اعلم ان كتاباتك من ضمن الكتاباات التي افتخر اني من متابعيها
تحيااتي

emad.algendy said...

اعتقد بان الانسان تجده في التفاصيل البسيطة
مايؤكد هذا الاعتقاد
قراءتي لمدونتك
لا تذكر لفتة او فكرة او هاجس الا لانها تحيي انسان تلمح وجوده بين ثنايا الكلمات والصور..,كل الشكر لك


اما عن تنميطهم الرهيب
فيكفي ان نعرف جميعا ان كهنة فرعون ادخلوا الرهبنة والربوبية ونسبوا يسوع لاباه تماما كما فعلوا بملوكهم
حتى ان الحسين و فاطمة وزينب يتربعون ديوان الحياة
يقضى عندهم كل قدر
حتى الاديان طبعت على نسخة فرعون الاول
ولا اختلاف سوى في المسمى
وتبقى ديانة "المصري" هي الغالبة
تتجلى صورا في الاسلام او المسيحية
لكن يبقى دين المصري كما هو



الجميل ان المصري يفتخر انه انطق الانجليزي والفرنسي لهجته ايام احتلاله
وانه قاوم التغريب قدر استطاعته
وانه يفرم بداخله اي غريب ويصهر
هو لا يدرك انه فقط ينمط ولا يطور او يتغير
الاختلاف رحمة

كل الشكر لك

امبارح بس حسيت قد ايه كانت فترة غيابك طويلة ومن غير ملامح


نقش التفاصيل وتتابع الحروف والكلمات يجعلني اشك انها توحى اليك

تحياتي

Foxology said...

رااائعة

تحياتى

إنسان || Human said...

مصطفى سيف

دائماًَ يا مصطفى في طليعة المعلقين القلائل
ودائماً انتظر تعليقك ورأيك فيما أكتب , وأتشرف دائماً بكلماتكم جميعاً في هذا العالم ..عالم الكلمات الجميلة

تحياتي لك

إنسان || Human said...

شهرزاد
أشكرك شهرزاد على متابعتك لي رغم تقصيري ... شكرررررررررراً

وبجد يا جماعة انا مش عارف ارد اقول ايه
مش لاقي فعلاً كلام ارد بيه
حقيقي

إنسان || Human said...

عماد الجندي

صديقي الغائب الحاضر دائماً في قلبي .. واصارحك انك من أقرب المدونين الى قلبي

هههه أصابتني حالة من النشوة بعد ان قرأت تعليقك .....احيانا ياصديقي وعتقد انك توافقني في هذا

عندما نكتب ينساب بعض منا بين الكلمات ليعبر عنا بشكل او بأخر

شكرا صديقي

إنسان || Human said...

Foxology

شكرا صديقي وارحب دائما بقراءتك

Unknown said...

السلام عليكم

الفكرة عميقة عميقة.. وعرضها بهذا السلوب كانم رائعا..

كل هذا بعيدا عن أسلوب القصة نفسه..
اصر على تميزك في وصف المشاعر الداخلية بدقة (مثل أختنا شيرين سامي).. هذه سمة مميزة أراها في أسلوبكما القصصي.. وهي ميزة من أمتع ما يجعل القارئ مغموسا حتى أذنيه في الأحداث.. فيتفهم مواقف البطل وإن رفضها..

تحياتي أيها القاص المميز.