مازالت أم محمود تتعارك كل يوم مع عُمال جمع القمامة وتكيل لهم السباب والشتائم فيهدأهم أهل الشارع محاولين إقناعهم أنها سيدة عجوز بلغت من العمر الكثير , الكثير مما شهدت فيه حوادث وتجارب تشيّب الطفل الصغير , مازلت أتعرف على صوتها تفاصل بائعة الخضراوات كل صباح على ناصية الشارع وتناهد مع هذه المسكينه فتعطيها ماتريد لتذهب عنها .. مازالت تتكأ على عصاها مائلة بجزعها إلى الأمام لتشق الشارع ببُطئ شديد و تتمتم بعبارات لايفهمها غيرها ,تتهادى بجلبابها الأسود نحو مدخل بيتها حتى تبتلعها ظلمة نهاية الشارع, هل تصدق أن محمود وأخوته لم تراهم أمهم ولا الشارع منذ خمسة شهور أو أكثر
, مازال جاري عم سعيد الموظف بالإدارة التعليمية يتشاجر مع زوجته كل صباح ونسمع صياحهما يخترق فضاء الشارع المكتظ بروائح الصباح , روائح الزيت الحار المخلوط بفول " أبو زينب " المدمس " وروائح الأبخرة المتصاعدة من قدر الزيت المغلي العائم على وجهه أقراص الفلافل وقطع الباذنجان , رائحة الكلور و مساحيق الغسيل الشاردة من قطع الملابس المُعلقة في الشرفات تتراقص في زهو, وفي أخر الليل أسترق السمع إلى ضحكات عم سعيد وزوجته من " المسقط " يخالطها صوت التلفزيون وجو عائلي حميم
مازالن النساء في الشارع يقفن في الشرفات ساعة العصاري يتفاخرن بغسيلهن الزاهي ينشغلن في تعليق قطع الملابس المتباينة الألون بعد أن يقمن بتثبيتها بالمشابك الملونة , فيضعن الملابس الداخليه البيضاء والغالب عليها اللون الأزرق "بعد أن نُقعت في الماء المخلوط بالزهر على أول حبل" ... ثم يضعن الملابس الملونة من جلابيب و سراويل وملاءات وشراشيف فتظهر كلوحة تتدرج فيها الألوان ثم يخبئن خلفها أقمصة نسائية
مازال رجال الشارع , عم سعيد و أستاذ ابراهيم زميله و عم أبو زينب و الحاج ربيع النجار ومعه حفنه من شباب من الشارع وآخرون من شوارع مجاورة يجلسون في المقهى يشاهدون محطة تلفزيونية ما تعج بالتجليّات و الخزعبلات التي تُصب في آذانهم صباً , فنذهب أنا و أبو خليل صديقي إليهم لنجلس ونفتعل مشاكل , وبعد الكثير من الجدل والصياح والصراخ يغيرون المحطة .. فيستبدلوها بمحطة تتمايل فيها فتيات على دقات الطبول أو بأخرى يتصارع فيها رجال وصياح المشجعين يهز الحلبة .. فنهدأ عله أخف الضرريّن
لم يتغير الشارع كثيراً بعد أن تركته, فقط تزايدت أعداد عربات الباعة الجائلين كإنتشار البراغيث في جسد قط شوارع ,وبعد صلاة المغرب لازلت تستطيع أن تميز بوضوح هرج ومرج الأطفال يلعبون في وسط الشارع نفس الألعاب التي يلعبوها منذ عشرات السنين , تجدهم قد أنقسموا إلى مجموعات على حسب أعمارهم وجنسهم , فتجد مجموعة تلعب الكرة وأخرى يلعبون "الإستغماية " وأخرون يلعبون " كهربا " ومجموعة من الفتيات يلعبن " صندوق " فيتقافزن كالعصافير فوق مربعات رسمنها بالطباشير
وأخرون يتسابقون بدراجات قديمة وصدأة أستئجروها من فوزي " العجلاتي " في أخر الشارع و مجموعة أخرى قد أنزوّا بجوار أحد مداخل البيوت يلعبون "ملك وكتابة " أو يلعبون بصور وورق أبتاعوه من الدكاكين وحينما تتعالى صيحاتهم تخرج لهم أحد سيدات البيوت فتصرخ فيهم فيهرولون هاربين وهم يتقاسمون الضحكات العالية .. يبدو لك حينها ياصديقي أنه مهرجان لن ينتهي أبداً , وعندما نسمع ضجيج غلق الدكاكين قبل منتصف الليل نعرف حينها أن يوماً رحل بدون رجعة , ويحط الصمت كطائر عملاق على الشارع ,على المنطقة بل على المدينه بأسرها , ينتهك صمت الشارع بعض نقر أحذية العائدين , أو صوت صياح بعض القطط المتصارعة على كيس قمامة أو أنثى , أو نباح كلاب تسير في جماعات صغيرة تخترق الشارع والشوارع المجاورة
أتذكرك كلما مررت على شرفة شقتكم التي لم تُفتح منذ أن رحلت , شرفتك التي ملأتها الأتربة , تلك الشرفة التي تشهد على كل شئ , تشهد عن وقفتنا حتى منتصف الليل أو إرتشافنا الشاي فيها حينما أزورك ,أو حتى سهرنا فيها نستمع إلى أغاني عبد الحليم و فيروز وأم كلثوم على الكاسيت الذي أشتراه أبوك من السعودية بعد أن قلبنا الكتب على صفحاتها المفتوحة , أراهن أن ضحكاتنا و دندنات أغانينا المفضلة مازالت تتردد بين جوانبها وجوانبي
غرفتك .. لم أستطع منع نفسي من سبرها كأنها جرحي العميق الذي لا يلتئم , رص كتبك في مكتبتك الصغيرة ومكتبك وسريرك وخزانة ملابسك و سجادة صلاتك المطوّية على حرف السرير , حاسوبك المُغطى , صورتك المُعلقة على الحائط مؤخراً , لم أستطع منع نفسي من دخولها حينما حملنا والدتك الطيبة بعد أن عادت من هناك , عادت من حيث أصرت أن تذهب ... إلى المُحاكمة
4 comments:
وصفك ساااحر
عجبتنى جدا وقراتها مرتين
ماشاء الله مبدع فى الوصف
بستمتع جدا بوجودى فى المدونة
تحياتى لابداعك
و ده الغريب يا صاحبي
ان مفيش اي حاجة اتغيرت غير زيادة عدد عربات الباعة الجائلين وزيادة عدد قطط و كلاب الشوارع الذين يتشاجرون على بقايا القمامة
اومال ده كله حصل ليه؟
نظرة جديدة و مختلفة لواقع الثورة و اللي مرت بيه طول الفترة اللي فاتت عجبني وصفك جدا وصفتها بدقة متناهية و عكست الم شارع او بلد
تحياتي ليك
و رحم الله الشهداء
الوصف خطير كأني في هذا المكان معك
لكم مافهمتش موضوع المحاكمة ده
Post a Comment